تشارلي كيرك وقاتله نتاج أيديولوجية عنف واحدة
رواية مكتب التحقيقات الفيدرالي عن كيفية تحضير روبنسون للقتل وتنفيذه له متاهة مُعقدة يصعب تصديقها، بل يصعب التصديق أن شخصاً سيتصرف بهذه الطريقة ما لم يكن يرغب في أن يُقبض عليه.
-
عنف السلاح ظاهرة أميركية فريدة، لا تتكرر في دول أخرى.
تحتاج أميركا كقوة عظمى متراجعة إلى تبرير إخفاقاتها: جرائم صارخة ووحشية في الخارج وانهيار اقتصادي في الداخل، على أنها حرب ضد الإرهابيين المحليين؛ بينما تتفاقم روح العنف والعنصرية والإقصاء المظلمة للسياسة الأميركية.
وكما هو متوقع، أثار مقتل الناشط اليميني، تشارلي كيرك، مؤخرًا موجة واسعة النطاق من التعليقات حول المخاطر المتزايدة للعنف السياسي في الولايات المتحدة - وهو نقاش من شأنه تأجيج المزيد من العنف السياسي.
بدورها، أظهرت إدارة ترامب توجهها لاستغلال مقتل كيرك كسلاح، مدّعيةً أن اغتياله يعكس جانبًا عنيفًا بطبيعته فيما تسميه أيديولوجية "يسارية"! وهذا ببساطة عكس ما تُظهره الإحصاءات: فاليمين تاريخيًا أكثر ميلاً لاستخدام العنف السياسي من اليسار.
يلاحظ جوناثان كوك، الكاتب الصحافي البريطاني، في مقاله مؤخرًا بموقع "ميدل إيست آي"، أن الرجلين اللذين يُزعم أنهما حاولا اغتيال دونالد ترامب العام الماضي، قبل الانتخابات الرئاسية، كانت لديهما، في أحسن الأحوال، أجندات سياسية مُرتبكة. لا يمكن وصف أي منهما واقعيًا بأنه "يساري".
لكن إدارة ترامب لا تهتم بالتفاصيل الدقيقة، إذ تستعد لتصعيد أشكال العنف السياسي الأخرى ضد كل من تصفه بـ"اليسار": المعارضين للإبادة الجماعية الإسرائيلية بغزة، والمتحولين جنسيًا، والمسلمين، والمهاجرين غير البيض، وطلاب اللجوء.
وقد تعهد، جيمس فانس، نائب الرئيس، وستيفن ميلر، أحد كبار مساعديه، بالانتقام من مجموعة غامضة يصفانها بـ"حركة إرهاب محلي" يسارية. وقال فانس، الذي قدّم بودكاست كيرك نيابةً عنه، إن الإدارة "ستعمل على تفكيك المؤسسات التي تروج العنف والإرهاب في بلادنا".
في البودكاست نفسه ، وعد ميلر "باستخدام كل الموارد المتاحة لدينا في وزارة العدل والأمن الداخلي، وهيئات الحكومة كافة، لتحديد هذه الشبكات وتعطيلها وتفكيكها وتدميرها".
في هذه الأثناء، صاغ قطب وسائل التواصل الاجتماعي إيلون ماسك المستقبل بعبارات أكثر قتامة، وذلك أثناء حشده حشودًا من القوميين البيض، بقيادة تومي روبنسون، الملوحين بالأعلام، في لندن خلال عطلة نهاية الأسبوع ما قبل الماضي. وفي حديثه إليهم عبر رابط فيديو، حذّر ماسك: "سواء اخترتم العنف أم لا، فالعنف آتٍ إليكم. إما أن تقاوموا أو تموتوا".
ردٌّ قاسٍ
بحسب كوك، تم بالفعل اختيار الأهداف المبكرة لهذه "الحرب"، كما يسميها مساعد ترامب السابق ستيف بانون. إذ يجري البحث عن الذين يرفضون تقديس كيرك - وقوميته المسيحية البيضاء وتعصبه ضد النساء والأقليات ومعاقبتهم.
فقد طُرد ماثيو دود، محلل يميني بارز، من منصبه في قناة MSNBC لملاحظته ما هو واضح: أن تعصب كيرك الصريح تجاه الآخرين أسهم في مزاج سياسي مشحون أدى إلى مقتله. والواضح أن هناك إجراءات أقسى قيد الإعداد. يُبرز هذا التوجه اقتراح تشريعي جديد لسحب جوازات سفر مواطنين أميركيين بسبب خطاب سياسي لا تقبله الإدارة.
لاحقًا، تعهدت وزيرة العدل في إدارة ترامب، بام بوندي، باستثناء "خطاب الكراهية" من التعديل الدستوري الأول الذي يضمن حرية التعبير، ما سيفتح الباب بالتأكيد أمام مقاضاة أي خطاب تعارضه الإدارة، مثل انتقاد كيرك.
وبعد إقالة جيمي كيميل، مقدم برامج تلفزيونية شهير، فورًا لتعليقه على تقييد حرية التعبير عقب مقتل كيرك – وورد أنها جاءت بعد ضغوط هائلة من رئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية الذي عيّنه ترامب. وقد حذّر ترامب نفسه من إمكانية معاقبة الشبكات الإعلامية لدى تغطيته "سلبيًا".
يرصد كوك أنه بعد مقتل كيرك، بات الأخير يُصوَّر قديسًا بدوائر اليمين، وذلك غالبًا بكتمان ما قاله بالفعل، لإثارة شعور اليمين بالمظلومية والغضب. وبالمثل، يُصوَّر قاتله المفترض، تايلر روبنسون، 22 عامًا، كشخصية كاريكاتورية.
خلفية روبنسون غير معروفة تقريبًا، مع أن الشيء الواضح الوحيد هو أنه نشأ في عائلة مورمونية متشددة وجمهورية. بدلًا من ذلك، هناك سعي حثيث للعثور على أي روابط يمكن أن تصوّره كشخصية "يسارية" داعية للكراهية، وهي شخصية مفيدة في صياغة رواية انتقامية لليمين.
كان حاكم ولاية يوتاه الجمهوري، سبنسر كوكس، محوريًا في صياغة الرواية حول مقتل كيرك حتى الآن. وكان من بين الذين "تساءلوا" إلى أين يؤدي اغتيال كيرك لاحقًا: "السؤال: أي نوع من التحول؟ هذا الفصل لم يُكتب بعد. هل هذه نهاية فصل مظلم في تاريخنا أم بداية فصل أكثر ظلامًا؟"
يرى كوك أن هذا في الواقع سؤال غير مطروح. ينظر اليمين المؤيد لـ"أميركا عظيمة مجددًا" لمقتل كيرك كرصاصة البداية: سيُشرعن تصعيدًا سريعًا لمزيد من العنف السياسي من اليمين الفاشي الأميركي الناشئ الذي يرمز له ترامب. وهذا سيوفر لليمين المتطرف الأسباب اللازمة لتبرير قمع قانوني واجتماعي أكثر لمعارضي ترامب. وهو قمع أراده منذ البداية.
فقاعة إنكار
جاء مقتل كيرك ذريعة لليمين الفاشي ليُقنع نفسه بأن عنفه السياسي مجرد "دفاع عن النفس". وهي معادلةٌ مُجرّبة. فقد دأبت "إسرائيل" على تكرار هذه الاستراتيجية بفظاعة خلال العامين الماضيين بزعم أن ذبحها وتشويهها لملايين المدنيين الفلسطينيين هو "دفاع عن النفس".
هذا منطقيٌّ لـ"إسرائيل" فقط لأن طبقتها السياسية والإعلامية قد محت عقودًا سابقة من العنف، والفصل العنصري، والتطهير العرقي، وحصار غزة الوحشي 17 عامًا؛ وأدى مباشرةً إلى هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. عاش الإسرائيليون في فقاعة الإنكار ذاتها مؤخرًا عندما خلصت الأمم المتحدة قطعيًا إلى أن "إسرائيل" ارتكبت إبادة جماعية في غزة.
انشغلت حركة "أميركا عظيمة مجددًا" بقيادة ترامب بفعل الشيء نفسه في أميركا، إذ محت أشكال عنفها التي سبقت اغتيال كيرك. بالطبع، لم تُضيّع إدارة ترامب وقتًا في شطب تمرد اليمين في يناير/كانون الثاني 2021 بمقر الكونغرس الأميركي، ومثّل نهاية رئاسة ترامب الأولى.
بعد أقل من عام على توليها السلطة، دأبت إدارة ترامب الثانية، خطابيًا وماديًا، على تقويض أسس الضمانات الدستورية والقانونية للبلاد تمهيدًا لمزيد من القمع العنيف.
يشمل ذلك، بحسب كوك، حالات إخفاء واعتقال المعارضين المحليين المطالبين بحقوق فلسطين بمراكز الاحتجاز بواسطة مسؤولي الهجرة بدائرة الهجرة والجمارك. وكذلك ترحيل المهاجرين وطالبي اللجوء إلى دول ثالثة، في تحدٍ لأحكام المحاكم غالبًا.
ومن ذلك أيضًا خطوة إنهاء حق المواطنة بالولادة لأطفال مولودين بالولايات المتحدة لمهاجرين غير شرعيين. ويشمل أيضًا تخفيضاتٍ حادة لتمويل الجامعات لتحفيزها على مواصلة قمع احتجاج الطلاب على الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة. أشكال القمع الهيكلي هذه أخطر وأعنف سياسيًا من أي شيء يحققه مسلح برصاصة واحدة.
رواية سطحية
من هنا يُفهَم سعي الذين يحاولون مواجهة الاندفاع نحو قمع قانوني واجتماعي أقسى لإيجاد ثغرات في رواية إدارة ترامب. إذ تُسهّل الطريقة التي يُقدّم بها مكتب التحقيقات الفيدرالي قضيته علنًا مهمة القمع كثيراً.
يُزعَم أن تايلر روبنسون كتب مذكرة يعترف فيها بالجريمة – وهي مذكرة اقتبس منها رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي كاش باتيل – رغم أن باتيل يقول أيضًاً إن المذكرة أُتلفت. ولم يشرح كيف أُتلفت أو كيف استطاع الاقتباس من وثيقة لم تعد موجودة.
رواية مكتب التحقيقات الفيدرالي عن كيفية تحضير روبنسون للقتل وتنفيذه له متاهة مُعقدة يصعب تصديقها، بل يصعب التصديق أن شخصاً سيتصرف بهذه الطريقة ما لم يكن يرغب في أن يُقبض عليه.
ومع ذلك، نفذ روبنسون عملية اغتيال دقيقة للغاية من على بُعد 200 ياردة، بل نجح أيضًا في التهرب من سلطات إنفاذ القانون حتى أبلغت عنه عائلته.
تنم هذه الصفعات إما عن عجز صارخ من جانب مكتب التحقيقات الفيدرالي، أو رواية مُصطنعة ومُناسبة لمكتب التحقيقات الفيدرالي المُسيّس للغاية بقيادة باتيل، الحريص على توريط "اليسار" وإشعال جولة أخرى من الحروب الثقافية الأعنف.
في ظل هذه الظروف، ليس مفاجئًا أن مراقبين لموجة اغتيالات قادة سياسيين مُرتبطين باليسار في ستينيات القرن الماضي، مثل الرئيس جون كينيدي وشقيقه روبرت كينيدي وزعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ – غير مُستعدين لتصديق الروايات الرسمية.
يلاحظ كوك أمرًا واحدًا يتفق عليه التياران الرئيسيان من اليسار واليمين: إلقاء اللوم بسهولة على "الزوايا المظلمة" للإنترنت – ثقافة ألعاب فيديو مُجرّدة من الإنسانية، وتفاعلات استقطابية مجهولة الهوية في وسائل التواصل الاجتماعي – تبدو ضارة وخاصة بشباب ساخطين بلا هدف، ويعانون غالبًا مشكلات عقلية.
بالتأكيد، من المُرضي أن يُعزى تدهور النسيج المدني لإفلات هذه المجموعة من العالم الواقعي إلى عزلة إلكترونية ومُحادثات مجهولة الهوية. لكن حتى هذه الطريقة في فهم تفاقم التنافر الاجتماعي والسياسي تؤدي للتهرب من الحقائق العميقة، وإعطاء الأولوية لرواية سطحية أخرى.
العنف الأميركي مُتجذر عميقًا
طغى مقتل كيرك على حادث إطلاق نار في مدرسة بمدينة دنفر، كولورادو، في اليوم نفسه. أصاب شاب يبلغ 16 عامًا، يُزعم تبنيه آراء النازية الجديدة، زميلين له بجروح بالغة بمسدس قبل أن يُطلق النار على نفسه.
تُظهر البيانات أن عنف السلاح ظاهرة أميركية فريدة، لا تتكرر في دول أخرى ذات ثقافة ألعاب فيديو مشابهة أكثر انتشارًا، وينجذب إليها هؤلاء الشبان المسلحون المنفردون بأميركا. بالطبع من الملائم سياسيًا تركيز الأنظار على هؤلاء الأفراد المشوهين، لا على السياق السياسي الأوسع للواقع وأزماته.
يجادل البعض بأن أسباب عنفهم تكمن في سلوكياتهم الفردية. ويسعى آخرون إلى إلقاء اللائمة والمسؤولية على انقسامات حزبية لا معنى لها في معظمها – انقسامات سياسية صنعتها أجهزة الدولة التي يخدمها الحزبان الرئيسان المسيطران على الكونغرس.