تراجع الرئيس التونسي عن التفاوض مع صندوق النقد مجرد مناورة
تجنب تكرار سيناريو انتفاضة الخبز قد يكون أقرب محددات فهم إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد قرار رفض إملاءات صندوق النقد الدولي والتلويح بالتراجع عن تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة.
توصّلت الحكومة التونسية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل مدته 48 شهراً بقيمة 1.9 مليار دولار، لكن الاتفاق النهائي تعطل بسبب ما قيل إنه "تأخر الحكومة التونسية في تنفيذ حزمة إصلاحات اقتصادية ضرورية متفق عليها لتنفيذ الاتفاق".
لم تكن الحكومة التونسية ترفض حزمة الإصلاحات الاقتصادية، وكانت قد بدأت في ما يشبه بالون الاختبار من أجل جسّ نبض الشارع التونسي، لأن واحداً من أهم مدلولات الإصلاحات الاقتصادية المقصودة هو رفع الدعم عن السلع الأساسية والمواد الغذائية التي تدعمها الدولة.
سارت الحكومة التونسية برئاسة نجلاء بودن بضع خطوات باتجاه مقتضيات الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وصدّق الرئيس التونسي قيس سعيد في نهاية العام الماضي على قانون الموازنة العامة بما يتماشى مع شروط صندوق النقد، وخصوصاً في ما يتعلق برفع الدعم عن سعر المحروقات وتقليص عدد الموظفين الحكوميين وتجميد رواتبهم.
بعد بضع خطوات في سير الحكومة التونسية باتجاه اشتراطات صندوق النقد الدولي، تبين للرئيس التونسي أن الأمر لن يمر، وأن المضي فيه قد يُفضي إلى تعميق الأزمة السياسية التي تعصف بتونس، ولا سيما بعدما أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل في 17 آذار/مارس 2022 أن من المستحيل أن يوافق على حزمة الإصلاحات التي عرضتها الحكومة التونسية على صندوق النقد الدولي.
كان هذا الرفض كافياً لاستدارة الرئيس قيس سعيد الذي يبدو أن الذاكرة أسعفته لاستعادة انتفاضة الخبز في تونس التي اندلعت في 29 كانون الأول/ديسمبر 1983، عندما أعلنت الحكومة التونسية برئاسة محمد مزالي آنذاك خطة تقشف لخفض الدعم عن منتجات الحبوب، والذي كان يشكل 10% من الموازنة العامة للدولة، استجابة لشروط صندوق النقد الدولي. وفي إثره، ارتفعت الأسعار بنسبة 110%.
أفضت خطة التقشف تلك إلى اندلاع احتجاجات بدأت في مدينة دوز جنوب تونس ووصلت إلى العاصمة، واستمرت مدة أسبوع، وكادت تخرج عن السيطرة، فتم إعلان حالة الطوارئ، ثم حظر التجوال، في 3 كانون الثاني/يناير 1984، بعدما أسفرت المواجهات عن عشرات القتلى وعدد كبير من المعتقلين.
هذا الأمر دفع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في 6 كانون الثاني/يناير 1984 إلى التراجع عن خطة التقشف - التي اشترطها صندوق النقد الدولي - وإعلان اعتماد موازنة كاملة لا تتضمن رفع الدعم عن المواد الأساسية والخبز.
تجنّب تكرار سيناريو انتفاضة الخبز قد يكون أقرب محددات فهم إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد في 6 نيسان/أبريل الجاري قرار رفض إملاءات صندوق النقد الدولي، والتلويح بالتراجع عن تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة التي تشمل رفع الدعم عن المواد الغذائية الأساسية.
اختار الرئيس التونسي قيس سعيد مناسبة إحياء الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل أول رئيس لجمهورية تونس الحبيب بورقيبة، ليعلن في ولاية المنستير شرق تونس فيما خصّ صندوق النقد الدولي أنّ "الإملاءات التي تأتي من الخارج وتؤدّي إلى مزيد من الإفقار مرفوضة"، مؤكداً أنّ "السلم الأهلي ليس أمراً هيناً"، مذكراً الحضور بانتفاضة الخبز عام 1983. وعندما سُئل عن البديل، اكتفى بالقول: "أن نعوّل على أنفسنا".
لا يختلف واقع تونس الحالي عن واقعها مطلع الثمانينيات، وإن كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية أكثر تعقيداً، فلماذا قرر الرئيس التونسي إذاً رفض الاستمرار في تنفيذ اشتراطات صندوق النقد الدولي ووصفها بالإملاءات؟
هل كان قرار سعيّد التراجع عن التفاوض مع صندوق النقد الدولي ورفض الاشتراطات خشية تكرار انتفاضة الخبز مشفوعاً بما سمّاه الحفاظ على السلم الأهلي قراراً حقيقياً وموضوعياً مدفوعاً بخطة اقتصادية بديلة أم استدارة ومناورة سياسية تهدف أولاً إلى قطع الطريق على الاتحاد العام للشغل التونسي، لئلا يوظف خطّة الإصلاحات الاقتصادية ورفع الدعم سياسياً، وتهدف ثانياً إلى تحسين شروط التفاوض مع صندوق النقد الدولي لا أكثر ولا أقل؟
تُدل المعطيات على أن الهدف الثاني هو الأقرب إلى الموضوعية، أي أن قرار الرئيس التونسي قيس سعيد بالتراجع عن التفاوض مع صندوق النقد الدولي كان مناورة لتحسين شروط التفاوض؛ ففي خلفية المشهد التونسي، تواصل الحكومة التونسية برئاسة نجلاء بودن جهودها لحشد الدعم من أجل التوصل إلى الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي.
هذا الجهد ليس سراً مخفياً، بل هو قرار رسمي لا يفصله عن إعلان الرئيس قيس سعيد رفض التفاوض مع صندوق النقد إلا بضعة أيام؛ ففي 14 نيسان/أبريل الجاري، صدر بيان لرئاسة الحكومة التونسية، جاء فيه أن بودن التقت سفير اليابان لدى تونس تاكيشي أوسيقا للحديث عن دعم تونس في مفاوضاتها مع صندوق النقد، لا سيما في ظل تولي الحكومة اليابانية الرئاسة الدورية لمجموعة السبع في الفترة الحالية.
وللغرض نفسه – في نصّ بيان الحكومة التونسية - استقبلت بودن السفير الفرنسي في تونس من أجل تبادل الآراء حول دعم تونس في مفاوضاتها مع صندوق النقد.
على عكس ظاهر ما أعلنه الرئيس قيس سعيد، مضت الحكومة التونسية خطوات أبعد صوب استكمال التفاوض مع صندوق النقد؛ ففي 15 نيسان/أبريل الجاري، نشرت وزارة الاقتصاد والتخطيط التونسية بياناً أشارت فيه إلى مشاركة كل من وزير الاقتصاد والتخطيط التونسي سمير سعيد ومحافظ البنك المركزي مروان العباسي في اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي، في محاولة لإزاحة العراقيل التي قد تعطل التوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد.
وجاء في بيان وزارة الاقتصاد التونسية أن الوزير سمير سعيد أكد "حرص الحكومة التونسية على المضي قدماً في تنفيذ برامجها الإصلاحية تدريجياً، والعمل على ضمان التلازم بين الانتعاش الاقتصادي والاستقرار والسلم الاجتماعي"، مشيراً إلى "أهمية التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد في أفضل الآجال".
إعلان الرئيس التونسي التراجع عن استكمال التفاوض مع صندوق النقد ضرب عصفورين بحجر واحد، فالرجل بدا حريصاً على السلم الأهلي، مستحضراً انتفاضة الخبز عام 1983، وقطع الطريق على اتحاد الشغل التونسي في محاولات توظيف الإصلاحات الاقتصادية سياسياً.
وكما يبدو، هذه الإصلاحات لن تتم من دون أن يكون اتحاد الشغل شريكاً فيها كأحد اشتراطات صندوق النقد الذي لم يُغلق الباب، ملوحاً بإمكانية إيجاد توافقات مع تونس لمنحها التمويل المطلوب، وهو ما أعلنته المتحدثة باسم صندوق النقد وفاء عمرو في 11 نيسان/أبريل الجاري، حين قالت إن صندوق النقد "سيظل ملتزماً تجاه تونس خلال اجتماع الربيع لمساعدة التونسيين على مواجهة المصاعب الاقتصادية"، ما يعني أن مناورة الرئيس قيس سعيد بسحب البساط من تحت اتحاد الشغل التونسي أولاً، وتحسين شروط التفاوض مع صندوق النقد ثانياً، أفضيا إلى ما يريد.