بين المناورة والبحث عن حلّ.. القوى الكردية تطرق باب الحوار مع دمشق
ثمة خذلان آخر تعيشه الأحزاب الكردية في رهانها على الأميركي، يعيد إلى الذاكرة ما واجهته من تغاضي الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن هجوم إردوغان على رأس العين وتل أبيض في العام 2019.
بين البحث عن مخرج للتهديدات التركية باجتياح الشمال السوري، وطرح مشروع وطني جدي لمعالجة ملف شرق الفرات، بون شاسع لا تستطيع المشاعر الحماسية تجاوزه. خلال 5 سنوات، نفذت تركيا 3 عمليات عسكرية شمال سوريا، انتهت الأولى بالسيطرة على أعزاز والباب وجرابلس والراعي ضمن ما أسمته "درع الفرات" في العام 2016، واحتلت في الثانية عفرين ضمن "غصن الزيتون" في العام 2018. وفي الأخيرة، اجتاحت مساحات واسعة بين رأس العين شمال غرب الحسكة وتل أبيض شمال الرقة، ضمن ما أسمته "نبع السلام" في العام 2019.
اليوم أيضاً، ثمة معطيات واضحة بخطورة التهديدات التركية، استناداً، أولاً، إلى التجارب الموجعة والدامية في الجسد السوري، وثانياً في ظلِّ تحضيرات تركيّة غير مسبوقة زجّت فيها أكثر من 30 ألف مسلّح تابعين للفصائل المسلحة المدعومة، منها "الجيش الوطني"، إضافةً إلى تحليق دائم لطيران الاستطلاع التركي وقصف شبه يومي على قرى تل تمر غرب الحسكة وعين عيسى شمال الرقة، وحرب إعلامية دخل فيها الرئيس التركي رجب إردوغان، وأكملها بتحرك دبلوماسي نحو واشنطن وموسكو، محاولاً الحصول على موافقة القوتين الحاضرتين بقوة شرق الفرات، لإطلاق عمل عسكري، بحجّة حماية بلاده من "الوحدات الكردية".
واقعياً، لا يزال الخطر عالياً، وهو لا يهدّد باجتياح أراضٍ سورية فقط، وهو العامل الأخطر من منطلق سيادي وطني بحت، لكنه يمهّد أيضاً للقضاء على "الإدارة الذاتية" الكردية المعلنة من طرف واحد، وإنهاء مشروع استثمرت القوى والأحزاب الكردية فيه سنوات ضمن محاولتها فرض أمر واقع عارضته دمشق، ولا تزال، حفاظاً على وحدة الأراضي السورية، وهو ما لم يحدث حتى اليوم!
بهذه المعطيات، لا يمكن فهم التوجّه المتسارع للقوى الكردية باتجاه دمشق إلا تعبيراً عن خوف عميق من التهديد التركي في الدرجة الأولى، وعدم الحصول على تطمينات أميركية بمنع تنفيذه، إذ إنَّ الإدارة الأميركية تستطيع بكلّ سهولة الطلب علناً من أنقرة، من دون تسريبات فقط، رفض أيّ تحرك باتجاه الأراضي السورية.
ثمة خذلان آخر تعيشه الأحزاب الكردية في رهانها على الأميركي، يعيد إلى الذاكرة ما واجهته من تغاضي الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن هجوم إردوغان على رأس العين وتل أبيض في العام 2019، وقبلها غضّ النظر عن مهاجمة عفرين في العام 2018.
ربما هذا ما يفسّر إلى حدّ بعيد اللهجة الجديدة في تصريحات قياديين في حزب "الاتحاد الديمقراطي" أو "الإدارة الذاتية "وحتى "قوات سوريا الديمقراطية" – قسد باتجاه الحوار مع دمشق وضرورة حل كل القضايا الخلافية على طاولة الحوار، لكنه يبدو حتى اليوم حواراً نتيجة ضغط الخطر التركي، وهو ما لا يكفي للبناء عليه، ما دام أنه لا يستند إلى قناعات جدية بعودة الدولة السورية إلى كامل منطقة شرق الفرات من منطلق دستوري سيادي، بصرف النظر عن أي تهديدات خارجية.
هذه القناعات وحدها، كما ترى دمشق، تحمي الأراضي والبلدات والمجتمعات المحلية، وتطلق حواراً مثمراً حول قضايا معقدة، كالإدارة الذاتية ومصير "قسد" والثروات الوطنية والتعليم والمؤسسات.
طبعاً، لا تقلّل هذه المحاذير من أهمية التصريحات المتتالية التي بدأها جميل باييك، القيادي الكبير في حزب "العمال الكردستاني"، عن ضرورة المصالحة مع دمشق، وتبعتها تصريحات ألدار خليل، القيادي في حزب "الاتحاد الديمقراطي"، عن ضرورة أن يكون الحوار في دمشق، وليس في جنيف، وأن ثروات المنطقة ملك لكلِّ السوريين، وتصريحات رياض درار وبدر جيا كرد، بما يصّب باتجاه العودة إلى دمشق، وهي تصريحات تراقبها دمشق بتمعّن، مع تجارب سابقة لم تكن مشجّعة خلال السنوات الخمس الماضية.
ربما يأتي الجواب هذه المرة من موسكو، وهي تدير تحركاً دبلوماسياً وعسكرياً مكثّفاً على مستويين؛ الأول نحو وقف العمل العسكري التركي المحتمل عبر تواصل عسكريّ وأمنيّ مع أنقرة، وتقديم خطوات لسحب ذريعة الهجوم، كإبعاد الوحدات الكردية ورفع الأعلام السورية وانتشار الشرطة العسكرية الروسية قرب الحدود. والآخر تشجيع القوى الكردية على فتح حوار شامل مع دمشق يمسّ كل القضايا، وخصوصاً ملفّ "الإدارة الذاتية" ومستقبل "قسد" والتعليم واللغة ضمن عودة مؤسسات الدولة السورية بالكامل إلى منطقة شرق الفرات... مهمة لا تبدو صعبة اليوم مع كلِّ تلك التطورات على الأرض وحاجة دمشق إلى ثرواتها النفطية وسيادتها على كامل أراضيها، ما يدفع بقوة نحو معالجة أحد أهم ملفات الحرب.