المشروع الصهيوني ومآلات الحُلم الأميركي
ما أهمية الكيان الصهيوني لأميركا؟ هل العلاقة بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" علاقة عضوية أم وظيفية؟ ما هي المصالح الاستراتيجية الأميركية التي تستهدفها أو تحقّقها هذه العلاقة؟
-
الصهيونية ومعاداة السامية.
حظي موضوع العلاقة الأميركية الإسرائيلية باهتمام غير قليل في دوائر الفكر والاجتماع العربي، تشخيصاً وتأريخاً وتحليلاً وتعليلاً وأبعاداً. وهو اهتمام مُستحَق في ضوء ارتباط هذه العلاقة الوثيقة بقضية فلسطين، والمشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي التوسّعي في فلسطين والمشرق العربي بأسره.
حاول المفكّرون والباحثون تحديد أبعاد هذه العلاقة ودوافعها ونطاقها وغايتها من خلال طرح عدد من الأسئلة الجوهرية: ما أهمية الكيان الصهيوني لأميركا؟ هل العلاقة بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" علاقة عضوية أم وظيفية؟ ما هي المصالح الاستراتيجية الأميركية التي تستهدفها أو تحقّقها هذه العلاقة؟ ما هو نطاق المشروع الصهيوني وحدود توسّعه في التصوّر الأميركي؟ ما تداعيات هذه العلاقة على دور الولايات المتحدة وعلاقاتها بدول وشعوب المنطقة ومستقبلها وآفاق نهوضها واستقلالها ووحدتها؟
رؤية عدوانية مطردة
كلّما تعمّق البحث في هذا الاتجاه، ستتكشّف رؤية أميركا والغرب الإمبريالي للمشرق العربي والعالم الإسلامي، خاصة بعد استقلال أقطاره عن قوى الاستعمار القديم، وما واجهته وستواجهه من استباحة وتغوّل وهيمنة.
وهي رؤية عدوانية مطردة متحرّكة، لا تقف عند حدود أو نهايات، تتبنّى الكيان الصهيوني مشروعاً استيطانياً توسّعياً إحلالياً بلا حدود نهائية. أما أقطار ودول العرب والمسلمين وحدودها ووحدة أراضيها فليس لها أيّ شرعية نهائية ثابتة وصلبة في الرؤية الأميركية، بل هي بلغة الرحّالة والجغرافيّين العرب من مؤلّفي معاجم البلدان وفتوح البلدان والمسالك والممالك هي "ثغور"، غير آمنة أو مستقرّة وعرضة لغارات الغزاة وتوسّعهم وتوغّلهم. وهناك مشاريع لتقسيم وتفتيت معظم هذه الأقطار والدول.
فالسودان لا ينبغي أن يكون موحّداً أو عربياً بل يجب تقسيمه! وبلاد الرافدين بحضارتها العريقة والمُوحّدة منذ آلاف السنين يجب تقسيمها، عرباً وكرداً وتركماناً أو سنةً وشيعةً وإيزيديّين وآشوريين وكلدانيين وصابئة.
أما فلسطين وشعبها، فبحسب ونستون تشرشل: فإنّ "وجود الكلب في المنزل لا يعطيه حقّاً في المنزل"، فقرّرت بريطانيا العظمى من هو صاحب المنزل! فهي ليست بلاداً لأهلها بل مجال مخصص لمشروع استيطاني صهيوني اقتلاعي.
وفي فيديو انتشر مؤخّراً، يتحدّث جنرال أميركي متقاعد (بزيّ مدنيّ)، بأنّ سوريا "مركز ثقل" الحضارة الغربية! (كيف؟!) ويحذّر من غزو جيوش العرب والمسلمين أوروبا قريباً. ويستدلّ الجنرال على أقواله بما يُدَرَّس في كلية الحرب الأميركية، ويقرع طبول الحرب ويشعل أوارها ونارها.
حدود دامية
بالنتيجة، أصبح وجود العرب والعروبة بمعظم أقطار الأمة – في الرؤية الإمبريالية الغربية – ليس نهائياً ولا مسلّماً به، بل لا يعتبر شرعياً أو أصيلاً، وربما ينبغي إبادتهم أو حبسهم بمعازل في الصحارى العربية، كمعازل الهنود الحمر! أو تهجيرهم كأهل غزة إلى أندونيسيا والأردن ومصر، كما اقترح دونالد ترامب مؤخّراً وطلب من "إسرائيل" تسليم قطاع غزة لأميركا، لإعادة بنائها كـ "ريفييرا" الشرق الأوسط، تستقبل كلّ شعوب العالم عدا أهلها بالطبع. لقد أحال النظام الدولي الإمبريالي دول العالم العربي من مناطق مستقرة استراتيجياً وجيوسياسياً بأهلها وهوياتها وإثنياتها وحضارتها إلى بلاد محتلة أزماناً طويلة و"ثغوراً" متنازعاً عليها وساحات "حروب" أبدية دامية.
وكان صامويل هنتنغتُن في مقاله الشهير "صدام الحضارات" بمجلة فورين أفيرز، قد أشار إلى "حدود دامية" تحيط بأقطار العالم الإسلامي، كمؤشّر على "عدوانية" المسلمين وتورّطهم في صراعات مزمنة، وليس مؤشّراً على ما تتعرّض له من عدوان وأطماع إمبريالية! والحقيقة أنه حتى لو لم تكن حدود هذه الأقطار دامية، تبقى أراضيها وحدودها وثرواتها ومواردها مطمعاً وهدفاً "طبيعياً" للهيمنة الغربية والمشروع الإمبريالي والتوسّع الصهيوني.
لا تتيح هذه التهديدات الجيوسياسية المستمرة والاختراقات الغربية استقراراً سياسياً يؤدّي إلى نظام تمثيلي تعدّدي، حرّ وحقيقيّ، يعبّر عن اختيارات الأمة وحقّها في تقرير المصير لأيّ قطر من أقطارها. هذا التحوّل المصيري المنشود لن يتحقّق إلا بعلاج الهشاشة والتبعية والاختلالات العميقة الراهنة في أوضاع الأمة إزاء المشروع الإمبريالي ببرنامج ثلاثي يقوّم اعوجاج توازن القوى داخلياً وخارجياً:
1. استقلال حقيقي يسدّ منافذ اختراقات الاستعمار وتدخّلاته ويقطع دابره.
2. عدالة اجتماعية تعيد توزيع الثروة وتستنهض فئات الأمّة المُهمّشة وتعزّز مشاركتها في المقاومة والتنمية والنهضة.
3. تمكين الأمّة وتوسيع مشاركتها ومساحات فعلها وتعزيز تمثيلها، من الأطراف إلى المركز، لردع تغوّل الإمبريالية ووكلائها بالداخل.
الصهيونية ومعاداة السامية
بيد أنّ هناك جانباً في العلاقة الأميركية الإسرائيلية لم ينل ما يستحقّه من نقاش وتأمّل. يعتقد ألون مزراحي الباحث في ظاهرة الاستعمار أنّ "الصهيونية هي المسمار الأخير في نعش الحُلم الأميركي"، وأنّ "معاداة السامية" هي المطرقة. وللمرّة الأولى في تاريخها المعاصر، تظهر الولايات المتحدة توافقاً "أخلاقياً" – أو بالأحرى "لا أخلاقياً" – بين سلوكها الاستعماري وخطابها الصريح المعلن، أو بين السلوك والصورة.
تشهد هذه الفترة الفريدة حقّاً من التاريخ، تغييرات "تكتونية" كبرى أمام أعيننا بدقّة عالية، جنباً إلى جنب مع عنف همجيّ وفساد عالميّ. فتتراجع قوة عظمى استثنائية الموارد والإمكانات بعصبية ظاهرة، بينما ترتفع قوة أخرى بشكل مطرد. ينتاب القلق بشراً كثيرين بشأن تلوّث البيئة والاحتباس الحراري والتطرّف المناخي والعنصرية وعدم المساواة، لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه بشأن الإنسانية نفسها: هل لها أيّ مستقبل على الإطلاق؟ هل سيتمكّن أطفالنا من العيش في سلام وأمان؟ أم أنهم سيتعرّضون للمطاردة والقمع من قبل طغاة مسلحين بجيوش آلية وتقنيات شاملة، كأنها مستمدّة من إحدى روايات الخيال العلمي "الديسوتوبيا" التي تستشرف نهاية كارثيّة للعالم؟
بدوره، يعتقد مزراحي أنّ البشرية لديها مستقبل، وخاصة أنها على وشك التخلّص من إحدى أكثر ظواهرها وعهودها تدميراً على الإطلاق: المشروع الاستعماري الغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
في مشهد يثير الاشمئزاز، تفقد الولايات المتحدة قوتها (إلى جانب ذكائها واحترامها لذاتها)، وبذلك تكشف عن نفسها حقائقَ لم تكن مستعدّة للاعتراف بها أبداً. إن إحدى هذه الحقائق واضحة في انتهاك الولايات المتحدة، ربما للمرّة الأولى، لقاعدة أميركية قديمة راسخة: يجب أن يظلّ الخطاب سليماً مقبولاً حتى أثناء ارتكاب أكبر الفظائع!
لقد رأينا الولايات المتحدة ترتكب جرائم شنيعة؛ والآن، في سابقة تاريخية، نراها تحتضن الشرّ (الصهيوني) علناً بالطريقة التي تتحدّث بها.
إنّ كلّ هذا يحدث حول الولايات المتحدة وبسبب قوة الصهيونية والتوجّه الاستيطاني التاريخي الراسخ فيها نحو الاستباحة والإبادة والاقتلاع، ولكن من خلال الصهيونية كقناة لتيار نفسيّ مظلم بدأ قبل أربعة أو خمسة قرون.
إن الولايات المتحدة تقول الآن "نعم، نحن نقتل الأبرياء، وهذا أمر طبيعي". وهذه، كما أرى، لحظة غير عادية سوف تكون لها عواقب واسعة النطاق وخطيرة للغاية.
بين الكلام والسلوك الأميركيين، لم يعد هناك مكان للتبجّح أو الاختباء!