السودان: حكومة "الدعم السريع" ومأسسة الصراع

إعلان "الدعم السريع" تشكيل حكومة جديدة إذا لم ينتهِ بحلّ سياسي وتوافق بين الأطراف، سيعني أن السودان سيصبح مقسّماً جغرافياً بسيطرة قوات "الدعم السريع" وحلفائها على إقليم دارفور.

  • مأسسة الصراع في السودان يُعيد رسم خريطة المشهد السياسي.
    مأسسة الصراع في السودان يُعيد رسم خريطة المشهد السياسي.

تدحرج الصراع العسكري في السودان بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع"، نحو المأسسة ليصبح صراعاً سياسياً بشكل وهياكل رسمية تُهدد وحدة السودان السياسة والجغرافية، إذ نفذت قوات "الدعم السريع" تهديداتها التي أطلقتها قبل أشهر عدة وشكّلت حكومة موازية في السودان تعرف باسم "حكومة السلام "، تضم قوى سياسية وتحالفات مدنية، رفضها الجيش وقوى سياسية سودانية وحذرت الأمم المتحدة من مخاطرها على وحدة السودان. 

وكانت قوات "الدعم السريع" وقوى سياسية وحركات مسلحة سودانية قد وقعت، في 22 شباط/ فبراير 2025، ميثاقاً سياسياً لتشكيل حكومة موازية في السودان. استكمل الاتفاق ودخل حيز التنفيذ في 26 تموز/ يوليو 2025، عندما أعلن ائتلافٌ سوداني تقوده قوات "الدعم السريع"، عن أسماء أعضاء مجلسٍ رئاسي وحكومةٍ موازية، في خطوة يُخشى أن تزيد من تعقيد الأزمة التي يعيشها السودان وتهدد وحدته الجغرافية. فما هي التداعيات المترتبة على إعلان قوات "الدعم السريع" تشكيل حكومة موازية؟ وهل تحوّل الصراع في السودان نحو المأسسة بين حكومتين بدلاً من قوتين عسكريتين متصارعتين؟

 وخلال مؤتمر صحفي في نيالا، كبرى مدن إقليم دارفور، أعلن المتحدث باسم التحالف علاء الدين نقد، أنه جرى تعيين عضو مجلس السيادة السوداني السابق محمد حسن التعايشي رئيساً للوزراء في حكومة "الدعم السريع"، إلى جانب الإعلان عن حكام للأقاليم. 

وفي حيثيات الإعلان الرسمي عن تشكيل الحكومة الموازية سيترأس قائد قوات "الدعم السريع"، محمد حمدان دقلو "حميدتي"، المجلس الرئاسي في الحكومة الموازية المكوّن من 15 عضواً. وسيكون قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال، عبد العزيز آدم الحلو، نائباً له.  

بعد عامين من صراع أتى على الأخضر واليابس في السودان وشعبه، يجتر المتحدث باسم "ائتلاف الدعم السريع" علاء الدين نقد خطاباً لا يبني دولاً ولا ينهي صراعاً ولا يطمئن شعباً يعاني من ويلات الجوع والنزوح والخلافات والانقسامات والاقتتال منذ عامين عجاف.

ويؤكد أن هدف الحكومة الموازية هو "بناء وطن يسع الجميع وسودان جديد علماني ديمقراطي لا مركزي وموحد طوعياً قائم على أسس الحرية والسلام والعدالة والمساواة". مشيراً إلى أن الحكومة المعلن عنها ستحمّل اسم "حكومة السلام". والمفارقة أن كل الصراعات الداخلية التي مر بها السودان تدحرجت على وقع خطابات السلام والحرية بينما الواقع والوقائع على الأرض مختلفة تماماً.

ردود الأفعال والمواقف لم تتأخر، ففي اليوم التالي، وصفت وزارة الخارجية السودانية، في بيان رسمي، الحكومة الموازية بـ"الوهمية". واتهمت الخارجية السودانية قوات الدعم السريع بـ "التغافل التام والاستهتار بمعاناة الشعب السوداني". ودعت الخارجية السودانية دول الجوار والمجتمع الدولي إلى "عدم الاعتراف والتعامل" مع من وصفته بـ "التنظيم غير الشرعي".

 وقد علّق حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي قائلاً إنه لم يجد في إعلان الحكومة الموازية "شيئاً جديداً يستدعي التعليق، سوى أنه يُجسّد تقاسم الانتهاكات وتوزيع الجرائم بين مليشيا الدعم السريع وحلفائها بالتساوي".

وأعربت الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية عن قلقهم إزاء إعلان الحكومة الموازية، مؤكدين أن الحل السياسي الشامل هو المسار الوحيد المقبول. ووصفت الولايات المتحدة الخطوة بأنها تهديد لوحدة السودان.

حكومة الجيش وحكومة "الدعم السريع" يعني أن عسكر السودان قد قرروا نقل الصراع من الاقتسام والمحاصصة إلى الانقسام السياسي والجغرافي ومن صراع قوتين عسكريتين إلى مأسسة الصراع من خلال تشكيل حكومتين.

 إن ذهاب قوات "الدعم السريع" إلى إعلان تشكيل حكومة موازية في هذا التوقيت بالذات، الذكرى الثانية لبدء الصراع والاقتتال، وعلى بعد خطوة من لقاء مرتقب، اجتماع الرباعية الذي تقوده الولايات المتحدة والسعودية، يقطع الطريق على أي فرصة يمكنها أن تُفضي إلى توافق لإنهاء الصراع واحتوائه. 

مأسسة عسكر السودان للصراع تفتح المشهد السوداني على  الاحتمالات كافة بما فيها الانقسام الجغرافي، أو ربما إعادة إنتاج النموذج الليبي، وانهيار الدولة في السودان لجهة التقسيم السياسي والجغرافي والإداري، في ظل انعدام السيادة واتساع نفوذ الدول الأجنبية والعربية الداعمة والدافعة لاستمرار الصراع في السودان واستقواء طرفي الصراع بتلك الدول، بل ربما يتدحرج هذا السيناريو وتذهب قوى سياسية سودانية أخرى إلى إعلان حكومة ثالثة جديدة وهكذا.

مأسسة الصراع في السودان بدأت عندما أصدر عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة والقائد العامّ للجيش؛ قراراً في 19 أيار/مايو 2025، بتعيين كامل إدريس، الموظّف الأممي السابق، رئيساً لحكومة جديدة. "حكومة الجيش" وفي 26 تموز/ يوليو 2025، أعلنت قوات "الدعم السريع" تشكيل حكومة أخرى موازية، وهذا يعني أن الصراع الدائر في السودان والذي بدأ منذ 15 نيسان /أبريل 2023، بين الجيش و"الدعم السريع" كان في الأصل على السلطة ومن أجل السلطة وغنائمها، والملاحظ أن معظم المسؤولين في الحكومتين تربطهم علاقة بالحكومة السابقة التي جاءت بعد الثورة الشعبية، وإسقاط نظام الرئيس عمر البشير، وحتى انقلاب أكتوبر 2021 الذي نفذه البرهان وحميدتي معاً قبل أن يختلفا لاحقاً. وبالتالي، فإن الخطوة التي أقدمت عليها "الدعم السريع" وحلفاؤها تشير إلى أن أي مفاوضات مُقبلة بين الطرفين ستكون أهم أجندتها السلطة والثروة؛ ومن المتوقع أن يتم ربط إنهاء الحرب بتقسيم السلطة بينهما.

تشكيل قوات "الدعم السريع" حكومة جديدة في سياق الدلالات يعني أن "الدعم السريع" وشركاءها يسعون إلى تشكيل أوراق ضغط، وفرض وقائع على طريق اجتماعات الرباعية وتحسين صورتهم وفرصتهم وظروفهم ورسم وضعهم السياسي في أي مفاوضات مقبلة. وبالتالي، تثبيت أمر واقع رغم افتقاره إلى الشرعية أو التوافق الوطني والسياسي، وتداعياته التي تكرس الانقسام وتقسيم السودان. وتفاقم الأزمة وقطع الطريق على أي فرصة للحل والتسوية، فقط من أجل تحسين ما يُمكن جبايته والحصول عليه.

حكومة "الدعم السريع" تعني التأسيس لظاهرة قد تتمدد لاحقاً إلى دول مجاورة، وهي أنه بإمكان أي مجموعة "ميليشيا" تمتلك السلاح أن تُعلن تشكيل حكومة وتنفصل وتنعزل عن الدولة الأم "المركزية" بغض النظر عن الجرائم التي قد ترتكبها، لا سيما أننا أمام تهوين وتقليل لتبعات وتداعيات الخطوة التي أقدمت عليها قوات "الدعم السريع"، وهو ما يفسره انضمام مكونات سياسية مختلفة لقوات "الدعم السريع" بهدف المحاصصة والاقتسام حتى لو كان ثمن ذلك تقسيم السودان، سياسياً واجتماعياً وجغرافياً، ما يهم هو الحصول على مغانم السلطة، وهذا تفكير قبلي جهوي ضيق يهدم الدولة وسيادتها من أجل مصلحة الزعيم. وتلك ظاهرة خطيرة جداً تُهدد سلامة الدول ووحدتها واستقرارها واستقلاليتها، والسودان أنموذجاً.

مأسسة الصراع في السودان من خلال إعلان "الدعم السريع" تشكيل حكومة جديدة يُعيد رسم خريطة المشهد السياسي السوداني وتحالفاته ويهدد سلامة أراضيه ووحدتها واستقراره، ويستدعي مخاوف حقيقية من انقسام السودان فعلياً بين كيانين متوازيين، لا سيما إذا فشلت الحلول السياسية السلمية وتصاعد الصراع، خصوصاً  أن عددًا من المكونات العسكرية التي كانت تنتهج الحياد، وعلى رأسها قوات الطاهر حجر وقوات الهادي إدريس، أصبحت الآن جزءًا لا يتجزأ من القوات التي تقاتل إلى جانب "الدعم السريع"، ما يعني تصعيدًا عسكريًا متوقعًا في الأيام القادمة، يُطيل أمد الحرب ويُعقد فرص الحل السياسي.

ختاماً، إعلان "الدعم السريع" تشكيل حكومة جديدة إذا لم ينتهِ بحل سياسي وتوافق بين الأطراف، سيعني أن السودان سيصبح مقسّماً جغرافياً بسيطرة قوات "الدعم السريع" وحلفائها على إقليم دارفور، بالإضافة إلى مناطق سيطرة حركة عبد الواحد نور المحايدة في جبل مرة، والسعي لإحكام السيطرة على ولايات كردفان المجاورة، وبالتالي تكون الحكومة الموازية قد سيطرت على مساحة توازي نصف السودان بحدود مع تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، وهي جميعها دول ذات علاقات مع قوات "الدعم السريع"، وهذا يعني أن مأسسة الصراع ستفضي إلى تقسيم السودان .