اقتصاد الكوارث.. العلاقة المعقدة بين السياسة والصناعة والعسكر
إنها اللحظة التي تتكثف فيها علاقات المصالح العضوية وتتداخل بين الأطراف الثلاثة: الكونغرس والتجمّعات الصناعية والتجمعات العسكرية الأميركية.
لم يكن غريباً على الرئيس الأميركي الأسبق دوايت آيزنهاور أن يطلق مبدأ المثلث الحديدي بين مراكز القرار السياسي (التشريعي) والتجمعّات الصناعية والعسكرية الأميركية. لقد لاحظ أهمية هذا التحالف انطلاقاً من تجربته الخاصة كرجل عسكري في ظل مناخات الحرب العالمية الثانية، وكرئيس للولايات المتحدة شهد علاقة جيدة مع كبار رجال الصناعة في الولايات المتحدة.
أدرك آيزنهاور أنَّ المشروع الاستعماري الأميركي بوجهه الحديث كان يحتاج إلى توسيع النفوذ العسكري الأميركي إثر انتهاء الحرب العالمية، الأمر الَّذي تطلب مشاركة المؤسسة العسكرية والشركات ومراكز الأبحاث التابعة لها، كما كان المشروع نفسه يتطلَّب إضعاف اقتصادات ألمانيا واليابان وإغراقهما في المساعدات، وهو ما تصدى له رجال الصناعة في الولايات المتحدة. كل ذلك جرى تغليفه في إطار التشريعات الصادرة عن الكونغرس.
لقد أسَّست لحظة آيزنهاور لمبدأ "اقتصاد الكوارث" الذي أدى لاحقاً إلى احتلال العراق. والمنطق واضح في هذا النوع من الاقتصاد: الجيش الأميركي يدمر البنية التحتية للبلاد، فتربح شركات السلاح، وتعمل مراكز الأبحاث، وتجني الشركات عقود "إعادة الإعمار"، ويتصدى رجال السياسة لصياغة القوانين الناظمة لكلّ ذلك.
إنها اللحظة التي تتكثف فيها علاقات المصالح العضوية، وتتداخل بين الأطراف الثلاثة. تحاول الولايات المتحدة الحفاظ على صيغة رابح – رابح - رابح بين أضلاع المثلث الثلاثة، ولكنّها لا تنجح دائماً.
في الحالة الأفغانية، بحثت الولايات المتحدة عن مكاسب جيوسياسية تصرف فيها فائض القوة في عالم أحادي القطب (التمركز في آسيا الوسطى وتطويق إيران)، وها هي اليوم تبحث في أوكرانيا عما يسمح لها بتوسيع الناتو، وهو ما رفضته روسيا. ويبقى المجمع الصناعي العسكري ينتظر الأرباح وتصريف المنتجات التي لا سوق لها إلا من خلال الحروب.
أوروبا باعتبارها سوقاً بديلاً عن أفغانستان
بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان والخسائر التي تكبدها المجمع الصناعي العسكري نتيجة ذلك، لا شك في أن الأخير بدأ يهتم بإيجاد ساحة جديدة لتعويض التراجع في المبيعات. وهنا تأتي الساحة الأوكرانية كمحرك لها. هذا الأمر ظهر علناً على لسان أبرز الشخصيات في شركات صناعة السلاح. الرئيس التنفيذي لشركة "لوكهيد مارتن" يقول إن "المنافسة المتجددة بين القوى العظمى ستؤدي إلى تضخم ميزانيات الدفاع وإلى مبيعات إضافية". أما الرئيس التنفيذي لشركة "Raytheon Technologies"، فيقول إن الشركة تتوقع أن ترى "فرصاً للمبيعات الدولية" وسط التهديد الروسي.
وبالفعل، منذ بداية العام الجديد، ارتفع سهم شركة "لوكهيد مارتن" بنحو 25%، بينما شهدت كل من "رايثيون" و"جنرال دايناميكس" و"نورثروب جرومان" ارتفاع أسعار أسهمها بنحو 12%.
بالتوازي مع ذلك، يأتي الضغط الأميركي السياسي على الدول الأوروبية من أجل زيادة إنفاقها الدفاعي، وتستفيد شركات السلاح الأميركية من ذلك، فتتجه ألمانيا مثلاً إلى شراء 35 طائرة مقاتلة أميركية من طراز "5Lockheed Martin F-3".
المجمع الصناعي العسكري وذراعه الإعلامية
منذ بدء الحرب في أوكرانيا، عمدت شبكات الإعلام الأميركية بشكل متكرر ومستمر إلى استضافة مسؤولي وزارة الدفاع السابقين الذين أدوا دور المستشارين على الشاشة، لتقديم تحليلات للأزمة ومساعدة الجمهور لفهم ما يدور في أوكرانيا.
غالبية هذه المشاركات تركزت على الحديث عن ضرورة انخراط أميركي أكبر في هذه الحرب، وضرورة أن تتخذ الولايات المتحدة خطوات أكثر جرأة في هذا الإطار، ولا سيما التسليح.
قدم الإعلام الأميركي هؤلاء الضيوف وفقاً لرتبهم التي شغلوها سابقاً، لكنه غفل بالتأكيد عن الإشارة إلى الدور الذي يؤدونه حالياً، وإلى الانتفاع الذي يحصلون عليه من إطالة أمد النزاع أو جراء الانخراط الأميركي في الأزمة، تحديداً من ناحية التسليح.
على سبيل المثال، وزير الدفاع السابق ليون بانيتا الذي يشارك باستمرار في مختلف المنصات ووسائل الإعلام، يشغل الآن منصب مستشار كبير في شركة "بيكون جلوبال ستراتيجيز" (beacon global strategies)، وهي شركة استشارية للصناعات الدفاعية. أما وزير الأمن الداخلي السابق Jeh Johnson، فهو يعمل حالياً في مجلس إدارة شركة "Lockheed Martin"؛ أكبر مقاول دفاعي في العالم.
ماكريستال الذي نقرأ عن نظرياته وأفكاره التي تعتمد وتدرس، هو عضو مجلس إدارة في ما لا يقل عن 10 شركات منذ العام 2010، ويتقاضى مبالغ خيالية، على الرغم من أنه أُقيل في إدارة أوباما.
إن التداخل في المهمات والمناصب كبير داخل الولايات المتحدة، فليس من الغريب لمسؤول التنقل بين رئاسة البنك الدولي ووزارة الدفاع (ماكنمارا نموذجاً)، وليس غريباً أيضاً أن يطال هذا التنقل مناصب في المنظمات الكبرى، مثل "USAID" والمنظمات التي تصنف نفسها "غير حكومية". وليس غريباً أن يتحول الثعلب العجوز هنري كسينجر إلى مستشار في شركة خاصة، وليست مؤسسة تابعة للدولة.
هؤلاء الجنرالات باتوا ذراعاً تنفيذية للمجمع الصناعي العسكري، جنباً إلى جنب مع وسائل الإعلام المألوفة والحديثة، ومن خلالها، إضافة إلى مجموعة كبيرة من كتاب الرأي الذين تقتضي إحدى مهامهم الأساسية تعزيز السرديات التي يجب إبرازها عبر وسائل الإعلام حول أحداث تهمّ مشغليهم.
بموازاة ذلك، تشهد منصات التواصل رواج صوتيات ومقاطع تختصر وجهة نظر هذه الشخصيات بصورتها الجدية والرسمية المؤثرة ليتداولها الشباب والناشطون، والهدف النهائي صناعة سردية تسعى المؤسسة الأمنية إلى تكريسها، مع التركيز على حالة معنوية ونفسية مرتبطة بالعواقب والنتائج المترتبة على مسارات معينة، ليتم تضخيمها عند الضرورة، مثل موضوع الأمن الغذائي والمجاعة.
بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، قدّم جورج بوش الولايات المتحدة على أنها أمة في حالة حرب على الدوام. انعكس هذا الامر بطبيعة الحال على مختلف وسائل الإعلام الحديثة التي كرست هذه السردية.
أنتج البنتاغون نظرية تناسبه: عقيدة الحرب الطويلة التي تفترض صراعاً لا نهاية له ضد أعداء غير واضحين، وهو خلق القدرة على استنساب السرديات المفيدة لها وفق الحاجة ووفق الموقف. هذا الأمر يترجم باختيار المصطلحات والصور والأشخاص الذين يعززون هذه السرديات ويحولونها إلى حالة نفسية ومعنوية يعيشها رواد المنصات بتفاوت، نظراً إلى أساليب الإغراق والتكثيف المعتمدة للترويج لها.
لعبة السرديات يمكن معاينتها أيضاً في التصريحات والاتهامات للمعنيين بالجبن وسوء الإدارة والدعوات لزيادة الإنفاق العسكري لأغراض الأمن القومي والاستراتيجيات الأمنية. وفي الداخل الأميركي، وعلى الرغم من حالة الاستقطاب الذي يتم رصدها، يتأثر الجميع بهذه الأساليب.
المجمع الصناعي العسكري يؤذي المواطن الأميركي
عندما نتحدَّث عن المجمع الصناعي العسكري، فإننا نتحدث عن شبكة من العلاقات العميقة والمتداخلة سياسياً ومالياً وأمنياً بين صناع القرار السياسي ولجان الكونغرس والوكالات الحكومية ومجموعات الضغط وشركات صناعة الأسلحة ومراكز الأبحاث والجامعات التي تقوم بدعم كل من الجيش والمشرعين على حد سواء.
العلاقة التي تربط مجمع الصناعات العسكرية بالمستويات الرسمية الأميركية أكثر تعقيداً من اختصارها بالحديث عن نفوذ وتأثير، إلى درجة أن الكاتب الحقوقي الأميركي جون وايتهيد يصف مجمع الصناعات العسكرية في الولايات المتحدة بالعدو من الداخل اقتصادياً وفكرياً وحتى سياسياً.
الكثير من المؤرخين والباحثين في التاريخ المعاصر وجدوا أنّ الأميركيين يعيشون تحت تأثير عبودية القوة العسكرية وفكرة التفوق العسكري العالمي، وعرجوا على فكرة تطبيع الحرب لهذا السبب، ما شجع على استخدام القوة وأفكار الهيمنة وتمجيد الحرب والمحارب، وقدم مفهوم "التفوق الأخلاقي للجندي" على المدنيين. وبالتالي، في ظل كل هذا التأثير والصفقات التي يمولها، فإنَّ الشعب الأميركي هو الخاسر الأكبر.
في المقابل، يتأثر شكل الحكم السياسي، لكون هذا المثلث الحديدي هو الّذي يقدّم التبرعات السياسية، ويحشد التأييد للإنفاق الدفاعي، ويحرك حملات الضغط لكسب تأييد السلطة التنفيذية.
علاقة إدارة بايدن مع المجمع الصناعي العسكري
ذكر دونالد ترامب خلال ولايته أنَّ كبار المسؤولين في البنتاغون لا يحبونه، على عكس قدامى المحاربين، على حد قوله، وانتقدهم، معتبراً أنهم لا يريدون أن يفعلوا شيئاً سوى خوض الحروب، حتى يتسنى لشركات السلاح التي تصنع القنابل والطائرات أن تحصل على المزيد من الأموال.
محلّلون كثيرون وباحثون في المجال الأمنيّ تحدّثوا عن أن علاقة ترامب كانت سيئة مع المجمع الصناعي العسكري، وروجوا لذلك، واعتبروا خسارته الولاية الثانية مؤشراً على ذلك، على اعتبار أنَّ المجمع الصناعي العسكري هو صانع الرؤساء، نظراً إلى ما يمتلكه من سلطة وقرار على صعيد مراكز الضغط في المجتمع والسياسية. المحللون نفسهم توقعوا مرحلة مختلفة مع بايدن الذي تربطه بهم علاقة طويلة ووطيدة.
في جوهر الموضوع، هذه لعبة إعلامية فقط. لا شك في أن ترامب، بعد غزوة الكابيتول، أصبح عبئاً على الولايات المتحدة، وصار محرجاً لصورتها، ولكن الإيحاء بأنه لا يتعاون مع المجمع الصناعي العسكري مضلّل، فهو تماماً كغيره من الرؤوساء. وزيرا الدفاع لديه أتيا من شركات "بوينج" و"Raytheon" على التوالي.
وقد زاد ترامب إنفاق البنتاغون بشكل كبير، كما زاد تنفيذه ضربات الطائرات من دون طيار بشكل كبير، في حين دفع بنشاط لبيع تلك الطائرات المسلحة من دون طيار إلى مشترين كانوا ممنوعين منها في السابق، مثل الأردن والإمارات العربية المتحدة.
ارتفعت مبيعات الأسلحة بشكل قياسي خلال عهده، ولا سيما إلى الدول الخليجية، مثل الصفقات التي عقدت مع السعودية بهذا الشأن، ومع قطر إبان الأزمة الخليجية، ومع الإمارات بطبيعة الحال. هذه كلها ليست مجرّد عمليات تجارية بين دول، فهي تكشف أيضاً إلى حد ما العلاقة بين الرئيس الأميركي والمجمع الصناعي العسكري.
ومع بايدن..
في استراتيجية الدفاع الوطني للعام 2018، روجت وزارة دفاع ترامب لفكرة أنّ الولايات المتحدة تخوض سباق تسلّح مع الصين وروسيا. وقد أوصت الشخصيات المركزية في مؤسسة السياسة الخارجية بتضخيم الميزانية العسكرية بنسبة 3 إلى 5% سنوياً.
ميزانية بايدن في البنتاغون تلبي هذا الطلب. في هذا الصدد على الأقل، يبدو الأمر كما لو أن ترامب لم يغادر منصبه أبداً، بحيث إنَّ الميزانية الدفاعية لا تزال تسجل ارتفاعاً. وفي الوقت الذي يقول بايدن إنه يريد فرض ضرائب على الأغنياء، فما يفعله هو إعطاء الأغنياء ذاتهم (المجمع الصناعي العسكري وغيره) صفقات جديدة من خلال ميزانية البنتاغون.
العلاقة التكاملية جرت ترجمتها سريعاً مع توقيعه على ميزانية دفاع سجلت رقماً عالياً بقيمة 778 مليار. في المقابل، ثمة مشاكل حقيقية تتعلق بأجندته المحلية حول أزمة كورونا والركود الاقتصادي والإسكان وديون الطلاب وغيرها. جميعها حلولها مجمدة، في حين أن أموراً تتعلق بالدفاع والمجمع الصناعي وشركات الأسلحة يتم حلّها سريعاً.
أيضاً، تأتي المساعدة الأوكرانية الإضافية التي أقرها الرئيس الأميركي، إضافة إلى أكثر من مليار دولار أنفقتها الولايات المتحدة بالفعل في العام الماضي لتسليح الجنود الأوكرانيين بأسلحة حديثة، بما في ذلك صواريخ "جافلين" المضادة للدبابات، التي تصنعها شركة "لوكهيد مارتن ورايثيون تكنولوجيز"، وصواريخ "ستينجر" المضادة للطائرات. هذه كلها تخدم المجمع الصناعي العسكري الأميركي، بعيداً عن الموضوع السياسي المباشر، لكنّ تأجيج الولايات المتحدة الحرب يتعلق في جزء أساسي منه بمصالح المجمع العسكري، بهدف تحقيق المزيد من الأرباح من خلال البيت الأبيض.