إنهم يراقبونك طوال الوقت.. أليس هذا مخيفاً؟

يبدو أن صدى كلمات صاحبة كتاب "عصر رأسمالية المراقبة" الذي نُشر في العام 2019 لم يقلّل من سطوة كبريات شركات التكنولوجيا، لا بل أسهمت جائحة كورونا في تعاظم بيانات هذه الشركات.

  • لا يقتصر الأمر على دراسة الأنماط لزيادة المبيعات، إنما يتعدّاه إلى تعديل المذاق الاستهلاكي
    لا يقتصر الأمر على دراسة الأنماط لزيادة المبيعات، إنما يتعدّاه إلى تعديل المذاق الاستهلاكي

نتردد على المراكز التجارية للتسوق ولنشتري حاجاتنا بنحو طبيعي، من دون أن نتوقع أن ثمة من يراقبنا، ويدرس أنماط استهلاكنا، ليحلّلها ويتنبّأ بما نرغب في شرائه الآن، وما سنريده في المستقبل القريب، وما سنحتاجه في المستقبل البعيد. نجلس في المقهى، ويصادف أن ثمة فتاة مع صديقاتها يجلسن إلى الطاولة المجاورة، يرتشفن قهوتهن الصباحية، ما إن نغادر المقهى ونفتح الفايسبوك، حتى نجد أن التطبيق يقترح علينا إضافة الفتاة التي التقيناها في المقهى إلى لائحة الأصدقاء!. تتحدث مع زميلك في العمل عن الشوكولا ومذاقها اللذيذ وتدخل بعدها إلى تطبيق الإنستغرام لتجد أمامك عشرات الإعلانات عن الشوكولا!. 

هل ثمة من يراقبنا ويتجسس على تفاصيلنا اليومية، ليفرض علينا أفكاره وقيمه وسلعه ومنتجاته، ويسيّرنا كما يشاء، وقتما يشاء، ونحسب أننا مخيّرون؟

في مدينة مينيابوليس الأميركية اقتحم أحد زبائن متجر "تارغت" الشهير مكتب مدير المتجر، وصرخ في وجهه قائلاً: "كيف ترسلون لابنتي المراهقة عروضاً للحوامل وحسومات على ملابس الأطفال حديثي الولادة وهي ما زالت صغيرة! . أتشجّعونها على الحمل والولادة في هذه السن؟!. كم أنتم سيّئون". بعد أسبوع من هذه الحادثة عاد الرجل إلى المتجر مطأطِئاً رأسه وقدّم اعتذاراً للمدير "لقد كنتم محقّين! لم أكن أعلم ماذا يجري في منزلي، فقد اعترفت لي ابنتي اليوم بأنها حامل ".  لم يكن العرض المرسَل للمراهقة الصغيرة مجرد صدفة، إنما كان استهدافاً خوارزمياً مقصوداً مبنيّاً على تحليل لبيانات المبيعات التي يقوم بها المتجر. فمن خلال الفاتورة الشرائية يتم تحليل الأنماط المتكررة في الاستهلاك، ومعرفة سلوكيات الزبائن. فقد لاحظ مديرو المتجر من خلال نلك التحليلات أن النساء في مراحل الحمل الأولى يعمدْنَ إلى شراء المتمّمات الغذائية والمأكولات الصحية والفيتامينات وغيرها. وتتنبأ الخوازميات بأن فتاة ما قد تكون "حاملاً" من خلال تغيير طرأ على سلوكياتها الاستهلاكية، ويمكنها التكهن أيضاً بعمر الجنين وجنسه . يبرّر المتجر حاجته إلى تحليل فواتير زبائنه لأهداف تسويقية، ولخدمتهم بنحو مثالي، ولتعزيز الولاء بين المستهلك وعلامته التجارية. لكن، أليس مخيفاً ومقلقاً أن يكتشف محلّلو البيانات معلومات عن زبائنهم  تعجز عائلاتهم التي تعيش معهم في منزل واحد عن معرفتها!؟. 

لا يقتصر الأمر على دراسة الأنماط لزيادة المبيعات، إنما يتعدّاه إلى تعديل المذاق الاستهلاكي بتحويله إلى سلعٍ معينة، فيدرك المعنيون التوقيت المثالي لتقبّل الزبون لشراء سلعة معينة، والتخلّي عن السابقة، ويعرفون محفّزات عملائهم؛ فثمة من يغريه السعر الرخيص، وثمة من يميل إلى النوعية المميزة وغيرها؛ فيرسلون عروضاً مصممة خوارزمياً وفق سلوكيات ومذاقات كل زبون على حِدة، باللعب على محفّزاته ومتطلباته ورغباته، لإقناعه بالشراء واعتماد سلع معينة دون سواها. في العالم الرقمي يصبح تحليل البيانات أعمق وأدق وأكثر فعالية من خلال التسوق الالكتروني، فلا ينحصر تحليل البيانات الضخمة بالفواتير، بل يقوم  بتحليل السلع التي راقبها المتسوّق، وعدد المرات والأوقات التي شاهد فيها المنتَج، فتستنبط المتاجر رغبات زبائنها وتوجهاتهم،  وقدرتهم الشرائية التي قد لا يدركها الفرد نفسه، وهذا ما يقوم به عملاق التسوق الالكتروني «أمازون».   

في العام 2018، عانى الأميركي توني شميدت من أزمة انقطاع التنفس أثناء النوم، فلجأ إلى طبيبه الذي طلب إليه استخدام جهاز خاص خلال الليل لضمان حُسن التنفس. وضع شميدت الجهاز ونام بسلاسة وهدوء للمرة الأولى منذ وقت طويل. عندما استيقظ في صباح اليوم التالي، فتح هاتفه الذكي، فوجد رسالة من الشركة المصنّعة للجهاز، تهنّئه فيها على قضاء أول ليلة هادئة منذ فترة بفضل جهازه الجديد، وتضمنت الرسالة تقريراً عن وضعه الصحي خلال نومه. صُعِقَ الرجل من قدرة الشركة على معرفة كل هذه التفاصيل الخاصة عن حالته بدقة من دون علمه مسبقاً، فأبلغهم بانزعاجه من تجسسسهم عليه، لكنهم لم ينكروا الأمر، بل ادّعوا أنهم يحصلون على المعلومات التي ترسلها تلك الأجهزة بنحو تلقائي ودائم، في سبيل الاطمئنان على سلامته الصحية وتأدية الخدمة بنحو أفضل. تململ الرجل وتحمّل مكرهاً انتهاكهم خصوصيته، بذريعة  أن الغاية المرجوّة هي الحفاظ على سلامته وصحته، ولكن بعد فترة زمنية بسيطة، تلقّى شميدت رسالة من شركة التأمين، تبلغه رفضها تجديد بوليصته بسبب سوء حالته الصحية.  ليتبيّن لاحقاً، وفق تحقيق استقصائي قام به موقع «برو بابليكا» أن المعلومات التي يسجّلها الجهاز تُرسل مباشرةً وبنحوٍ سري إلى شركة التأمين من خلال الشركة المصنّعة، فتقوم الشركة بتحليل البيانات وتتخذ قراراتها بتجديد التأمين أو بإلغائه، وفقاً لحالة المرضى الصحية. بهدف السيطرة وزيادة الربح، يصبح التجسس على خصوصية الأفراد واستغلال المعلومات والتحايل، من الأمور المبرّرة في وادي سيليكون، حيث تتمركز شركات التكنولوجيا العملاقة.

لا مكان للخصوصية الفردية في العالم الرقمي، فكل ما نفعله كأفراد على الشبكة العنكبوتية سواء كان مشاهدة أم متابعة أم مشاركة أم إعجاباً أم شراءً أم بيعاً، أو أي أمرٍ آخر، سيسجله ويحلّله عمالقة الويب، كفايسبوك وغوغل وأمازون وغيرهم، وسيستخدمونه لغايات تجارية، في معظم الأحيان، وسياسية في أحيان آخرى.

تقول الأستاذة في جامعة هارفرد  "شوشانا زوبوف " إن شركات التكنولوجيا العملاقة أصبحت تمتلك ثروة ضخمة من بيانات المستخدمين، تُمكّنها من التأثير والتلاعب بتوجهات وسلوكيات الجمهور، فقد أضحت هذه الشركات تمتلك سلطة فوقية على المستخدمين وتتحكم فيهم سيكولوجياً.

لقد خلقت هذه الشركات نموذجاً جديداً من الأسواق مبنيّاً على "سلعنة" بيانات المستخدمين التي تحصل عليها مجاناً وطوعياً من قبل الجمهور، وتعمد إلى التحليل والاستنباط والتنبؤ، لتوظف نتائجها في عمليات تجارية مباشرة، عن طريق الإعلانات وبيع المنتجات، أو غير ذلك، مباشرة عن طريق بيع البيانات لأطراف آخرين يستفيدون منها بشكل ما .

استفادت شركات الويب العملاقة من الثورة الرقمية وانترنت الأشياء لمعرفة خصائص وسلوكيات المستخدمين اليومية لتتحكم في الأسواق العالمية،  وأطلقت  "شوشانا" مصطلح "رأسمالية المراقبة" لوصف احتكار عمالقة الويب لبيانات الأفراد، وتحويلها إلى سلعة للتأثير على السلوكيات، وتعديل المذاق الاستهلاكي للأفراد، لأهداف اقتصادية وسياسية.

تحذّر "شوشانا" في كتابها "عصر رأسمالية المراقبة" من تعاظم قوة هذه الشركات وسيطرتها المطلقة على مستقبل المعلومات في العالم، وتعتبر أن المعالجة يجب أن تبدأ في تأسيس حركة عالمية تقف في وجه رأسمالية المراقبة، وتضع حداً لانتهاك الخصوصية، وتمنع الاستفادة من بيانات المستخدمين والأفراد بنحو تجاري.  

يبدو أن صدى كلمات صاحبة كتاب "عصر رأسمالية المراقبة" الذي نُشر في العام 2019 لم يقلّل من سطوة كبريات شركات التكنولوجيا، لا بل أسهمت جائحة كورونا في تعاظم بيانات هذه الشركات بفعل اضطرار الناس إلى العمل عن بعد، والاعتماد على التطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي للقيام بأمور الحياة اليومية، وباتت تفاصيل الأفراد اليومية بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والرياضية وما سواها، في حوزة الشركات الكبرى، ومؤرشفةً في بياناتها الضخمة.

 يعلم محلّلو البيانات في تلك الشركات متى نقود سياراتنا، وبأي سرعة نسير، وإلى أين نتوجه، ومن يرافقنا، وماذا نحب وماذا نكره، ومتى نكون سعداء، ومتى نغضب، وماذا نشتري، وما هو طعامنا المفضل، وأي ثياب نحب، وكل التفاصيل الأخرى.  في الوقت عينه، ما زال الكثير منا  يتعامل ببراءة مع كل هذه التفاصيل التي يعرفونها عنا، معتبرين أنهم لا يملكون أسراراً، وليس لديهم أشياء مهمة يخفونها، من دون أن يدركوا أن تلك الشركات أضحت تتحكم في خيارات الناس ومصائرهم، وأن الهاتف الذكي أصبح حاجة ضرورية، وأن الحضور في وسائل التواصل الاجتماعي لا مفر منه، وأن تطبيقات الشراء والسفر والخرائط وغيرها أضحت من الأساسيات، ولكن، يبقى السؤال من دون جواب: مَن سيحمي خصوصيتنا ويكبح جماح إمبراطورية وادي سيليكون من استغلال معلوماتنا لأهداف تجارية أو سياسية؟!

 

المصادر:

كتاب:  The Age of Surveillance Capitalism 

وثائقي : Shoshana Zuboff on surveillance capitalism https://www.youtube.com/watch?v=hIXhnWUmMvw  

مقالات:

https://www.forbes.com/sites/kashmirhill/2012/02/16/how-target-figured-out-a-teen-girl-was-pregnant-before-her-father-did/

https://www.propublica.org/article/you-snooze-you-lose-insurers-make-the-old-adage-literally-true