إعلان نيويورك وحلّ الدولتين.. لا تزعجوا "إسرائيل"!
من هو الذي يمارس الإرهاب اليوم في قطاع غزة والضفة الغربية برأي منظمي المؤتمر: "إسرائيل" أم المدنيون الفلسطينيون العزّل؟
-
لغة مضللة... ومواربة.
اختتم المؤتمر الدولي بشأن التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حلّ الدولتين أعماله مؤخراً بإصدار بيان ختامي سمّي بإعلان نيويورك، وتضمّن بحسب المنظمين الاتفاق على اتخاذ "خطوات ملموسة" و"مرتبطة بإطار زمني ولا رجعة فيها" من أجل تطبيق حلّ الدولتين.
يُحسب للمؤتمر أنه تمكّن أولاً من حشد عدد كبير من الدول الداعمة لمشروع "حل الدولتين" وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وثانياً أنه شهد إعلان بعض الدول المهمة كفرنسا وبريطانيا وكندا وغيرها نيتها الاعتراف بدولة فلسطينية خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر القادم.
لكن، في المقابل، هناك كثير من التساؤلات المرتبطة بما احتوى عليه البيان الختامي من دلالات ومصطلحات تؤشر إلى طريقة التعاطي غير الموضوعية مع مجريات الصراع العربي-الإسرائيلي، وتغاضيه الفاضح عن العديد من حقائق التاريخ والجغرافيا، فضلاً عن غياب ضمانات تنفيذ ما اتفق عليه من خطوات "ملموسة".
لغة مضللة... ومواربة
اعتمد المنظمون في صوغ البيان الختامي على لغة ساوت في كثير من الفقرات بين الضحية والجلاد، أو لنقل لغة "تصالحية مضللة"، وهذا ما أفقد المؤتمر أهميته التي روّج لها، وحوّله إلى مجرد حدث دولي يتبنى وجهة النظر الغربية "المعلنة" حيال مسيرة الصراع العربي-الإسرائيلي، وبالأخص ما تشهده اليوم الأراضي العربية المحتلة من حرب إبادة إسرائيلية بدعم وتواطؤ دولي واضح. وهذه اللغة شواهدها في البيان عديدة بدءاً من مقدمته إلى نهايته.
فالحديث مثلاً عن "بناء مستقبل أفضل للفلسطينيين والإسرائيليين" و"الثمن الإنساني الفادح لهذا النزاع" لا يطمس فقط حقائق تاريخية وحقوق شعب تعرض للاضطهاد والقتل والتجويع لأكثر من ثمانين عاماً، وإنما يبرر للمعتدي أفعاله وجرائمه التي لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً لها، وبالتالي تصبح الحقوق المسلوبة والمهدورة محل تفاوض أو استجداء لإعادة بعضها، وتتحوّل المقاومة إلى فعل منبوذ ومتهم، وهو ما ترجمه البيان صراحة في أكثر من موضع بدءاً من "إدانة هجوم حماس على المدنيين" في السابع من أكتوبر، مروراً باستخدام مصطلح "القضاء على الإرهاب والعنف بكل أشكاله"، وصولاً إلى اعتبار "أخذ الرهائن محظوراً بموجب القانون الدولي".
وعليه، من هو الذي يمارس الإرهاب اليوم في قطاع غزة والضفة الغربية برأي منظمي المؤتمر: "إسرائيل" أم المدنيون الفلسطينيون العزّل؟ وهل هجوم "إسرائيل" المستمر منذ عامين على قطاع غزة وقتلها ما يزيد على 61 ألف فلسطيني يصنف كشكل من أشكال العنف فقط؟ وإذا كان أخذ الرهائن محظوراً دولياً، فهل اعتقال 19 ألف فلسطيني منذ السابع من أكتوبر عام 2023 هو إجراء مباح؟
وفي ظل الموقف الإسرائيلي الرافض لحلّ الدولتين، فإن البيان يخلو من أي إشارة إلى الإجراءات التي يمكن للدول المشاركة في المؤتمر اتخاذها لإلزام "تل أبيب" بتنفيذ ما نصّت عليه قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، والتي لم يذكر البيان أرقامها صراحة، ومرجعية مؤتمر مدريد للسلام، والمبادرة العربية التي طرحت في قمة بيروت عام 2002. وللعلم، فإن آخر تصريح أميركي في هذا السياق ربط إقامة دولة فلسطينية بموافقة "إسرائيل".
أو لنسأل بشكل آخر: ما الذي سوف يلزم "إسرائيل" اليوم بتغيير موقفها من السلام الذي رفضت الخضوع لمتطلباته الدولية منذ عقود عدة، وهي في أوجه سطوتها العسكرية والدعم الأميركي؟ هل ستكون هناك عقوبات دولية واسعة سياسية واقتصادية وعسكرية، أم أن بعض الدول ستكتفي فقط بالإعلان عن اعترافها بدولة فلسطينية لا يسمح الاحتلال بتوفر أي من مقوماتها على أرض الواقع؟ أو أن الأمر لن يتعدى الإدانات الإعلامية كما هي الحال من عملية التجويع الحاصلة اليوم في قطاع غزة؟
ومقابل الرفض المعلن أميركياً وإسرائيلياً لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة والاستمرارية، فإن البيان يفرد مساحة واسعة للحديث عما يتوجب على الفلسطينيين فعله في المرحلة القادمة، والذي هو في جزء كبير منه عبارة عن مطالب إسرائيلية رددت في أكثر من مناسبة من قبيل تسليم حركة حماس سلاحها من دون تقديم ضمانات بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، واستعادة الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة كاملة بما في ذلك حق العودة، والأهم هو دور القوى الأمنية الفلسطينية التي تحوّلت خلال السنوات الماضية إلى مجرد حارس لأمن "إسرائيل" برأي فصائل المقاومة وكثير من الفلسطينيين.
وفيما يرحّب البيان بـ" الجهود الجارية لتحديث المناهج الفلسطينية" يكتفي "بدعوة إسرائيل للقيام بجهد مماثل"، أي أن الخطوة الأولى دوماً يجب أن تأتي من الطرف المعتدى عليه والمسلوب حقه، لا من المعتدي والقاتل.
وحتى مستقبل الدولة الفلسطينية المستهدف إقامتها، فإنه يبقى مرهوناً بما كانت تقوله "تل أبيب" سابقاً، ولم يعد كذلك اليوم مع حكومة نتنياهو المتطرفة. فالدولة الفلسطينية لا يفترض حسب البيان "أن تكون مسلحة"، لكن جارتها التي تمتلك ترسانة ضخمة من أكثر الأسلحة فتكاً في العالم، وتاريخاً طويلاً من الحروب وجرائم الإبادة، تبقى بمأمن عن المطالبة بنزع سلاحها. فأي سلام واستقرار يمكن أن يتحققا في ظل هذه المفارقة؟
وكي تكتمل صورة تحيز الدول المشاركة في المؤتمر لـ"إسرائيل"، يتحدث البيان عن إجراء انتخابات فلسطينية تشهد "تنافساً ديمقراطياً بين الفاعلين الملتزمين ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية والتزاماتها الدولية وقرارات الأمم المتحدة"، أي عملياً استبعاد الفصائل غير المنضوية في منظمة التحرير أو تلك التي لها ملاحظات على عمل المنظمة وبرنامجها، من دخول أي سباق انتخابي(بلديات-تشريعي-رئاسي) في محاولة تكريس سياسة السلطة الحالية، وإن تغيرت الوجوه هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن البيان لا يشترط الأمر نفسه على الانتخابات الإسرائيلية، التي تخوضها أحزاب عنصرية ومتطرفة تدعو علانية إلى قتل الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه واحتلال مزيد من الأراضي العربية.
وختام أسوأ
يُختتم البيان بدعوة "القيادة الإسرائيلية إلى إصدار التزام علني وواضح بحلّ الدولتين"، وأعتقد أن الرد الإسرائيلي على هذه الدعوة كان واضحاً خلال الأيام القليلة الماضية، إذ صعدت حكومة نتنياهو من حربها على قطاع غزة بقتلها مئات الفلسطينيين الجوعى ممن كانوا ينتظرون الحصول على ما يسد جوع أبنائهم، وتشديد حصارها القاتل على القطاع. ثم لو كانت "إسرائيل" مهتمة بحلّ الدولتين لكانت على الأقل حضرت المؤتمر، أو فتحت حواراً مع بعض الدول الغربية بدلاً من العمل على توجيه الانتقادات لمن يريد الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
أن يزداد عدد الدول الراغبة في الاعتراف بدولة فلسطينية فهذا تطور جيد وسط ما تشهده المنطقة من طغيان إسرائيلي، لكن هل هذا الاعتراف سيكون ضبابياً، بمعنى ألا يتم تحديد حدود تلك الدولة في بيان الاعتراف (حدود الرابع من حزيران لعام 1967)؟ أم سيترك الأمر لمجريات المفاوضات التي قد تتم مستقبلاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ أم ستكون هناك شجاعة وجرأة للقول بدولة فلسطينية على أراضي الرابع من حزيران لعام 1967 وبكامل حقوقها؟