من الأقوى في حكومة نتنياهو؟

يُتقن نتنياهو توزيع المسؤوليات بين حلفائه، فيُلقي على الآخرين مسؤوليات قذرة يحمّلهم تبعاتها، وأخرى تتلاءم مع برامجهم وطموحاتهم، لكنه يعود، بين الحين والأخر، ليذكّرهم بأنه هو الزعيم الأقوى.

  • من الأقوى في حكومة نتنياهو؟
    من الأقوى في حكومة نتنياهو؟

من ميزات النظام الفاشي أن يتبع المواطنون زعيماً قوياً، لا يطيق المنافسة على الزعامة. مع الإشارة إلى أن ظاهرة الزعيم موجودة في أنظمة غير فاشية أيضاً.

عند التمعّن في منهجية نتنياهو، منذ أن دخل في صفوف حزب الليكود في بداية الثمانينيات من القرن الماضي حتى اليوم، لا بدّ من أن نجد فيه صفات الزعيم الفاشي، حتى إن بدا ليبرالياً، أو يريد أن يبدو ليبرالياً وسطياً، أمام الرأي العام الإسرائيلي، والرأي العام الدولي الغربي، بصورة خاصة. وله في ذلك أسباب ومآرب، ومنهج خاص بمجتمع استيطاني لا يزال في طور التشكّل، يستقطب المستوطنين من كل حدب وصوب باسم الحرية والديموقراطية والليبرالية.

لذلك، لا يُسمح للزعيم بأن يتصرف كزعيم أوحد، يحكم بقبضة حديدية، ولا يقبل المساومات. في الوقت ذاته، يعلم نتنياهو بأن "دولة إسرائيل" لا تستطيع الاستغناء عن دعم الدول الاستعمارية الغربية، الليبرالية.

في ظروف وميزات المجتمع الاستيطاني، الذي لم تكتمل هويته بعدُ، ولتحقيق طموحاته ورؤيته السياسية الخاصة، كان لا بد لنتنياهو من أن يتخلّص، أولاً، من مجموعة كبيرة ومنافِسة له داخل الليكود، وأعضاء هذه المجموعة هم من أطلق عليهم مناحيم بيغن، أو الإعلام الإسرائيلي لقب "أمراء" الليكود، وعلى رأسهم إيهود أولمرت وتسيبي ليفني ودان مريدور وروبي ريفلن وبيني بيغن وآخرون.

الأول بين الضحايا، وإن لم يُحسَب على "الأمراء"، هو دافيد ليفي، عندما كان وزيراً للخارجية ونائباً لرئيس الحكومة في حكومة شامير (1990-1992)، وكان نتنياهو نائباً لوزير الخارجية، ففتح الخطوط السياسية مباشرة مع رئيس الحكومة بعيداً عن قنوات وزارة الخارجية، الأمر الذي أزعج ليفي في درجة كبيرة عبّر عنها علناً في وسائل الإعلام. وتتالت التصفيات، فأصبح كل هؤلاء، اليوم، خارج الليكود وخارج المنافسة على زعامة الحزب.

مثلهم آخرون نسي الجمهور أسماءهم، وإن تقلدوا مناصب مهمة في الماضي. ليس هذا فحسب، بل تخلص نتنياهو من شخصيات حاولت منافسته لاحقاً، مثل جدعون ساعر ويوفال شطاينتس. ولم يألُ جهداً في محو من وقف إلى جانبه، أو أدار مكتبه لفترة من الزمن ثم اختلف معه وتركه، مثل نفتالي بينيت وأييلت شاكيد.

يمكن أن نلاحظ، اليوم، أيضاً، غياب شخصيات ليكودية مهمة، شغلت مناصب رفيعة في حكومات نتنياهو السابقة، وحظيت بدعم حزبي كبير، مثل يوري أدلشطاين، الذي حظي بشعبية كبيرة، خلال شغله منصب رئيس الكنيست، منذ فترة ليست بعيدة، وأُشيرَ إليه، آنذاك، كمنافس لنتنياهو في رئاسة الحزب، ولم تقلّ شعبيته آنذاك عن شعبية يريف ليفين داخل الليكود اليوم، وقبله داني نفيه، الذي كان أكثر المقرَّبين إلى نتنياهو، وشغل عدة مناصب في الحكومة في سن مبكّرة، بالإضافة إلى آخرين.

في مراجعة بسيطة، أيضاً، يمكن الاستنتاج أن أي قيادي في الليكود تجرّأ على منافسة نتنياهو وجد نفسه خارج الحزب، وأن كل من خرج من الحزب بقي مع جزء بسيط من جمهور الناخبين مقارنة بمن أيده قبل خروجه من الحزب، وآخرهم كان جدعون ساعر.

في الوقت ذاته، نرى نتنياهو يقرّب إليه شخصيات مطيعة، تقبل التبعية له من دون طموح إلى المنافسة على الزعامة، والقيام بما يلقى عليها من مهمّات، وإن كانت قذرة، مثل وزير القضاء الحالي، يريف لفين، ورئيس لجنة الخارجية والأمن تساحي عنغبي، ووزيرة المواصلات ميري ريغف، ورئيس الكنيست الحالي أمير أوحانا.

على صعيد آخر، استطاع نتنياهو أن يحافظ على زعامة معسكره الحالي، ووحدته، خلال الجولات الانتخابية الأخيرة، على الرغم من الشبهات التي تحولت إلى لوائح اتهام بمخالفات واضحة ضده أمام القضاء الإسرائيلي، قد توصله إلى السجن.

كما استطاع نتنياهو أن يحافظ على جمهور المؤيدين له كأفضل مرشح لرئاسة الحكومة، وفق كل استطلاعات الراي العام خلال الأعوام الـ 15 الأخيرة. وهذا ما يجعله الزعيم الأقوى في "إسرائيل"، ليس فقط في نظر حلفائه، ولا فقط داخل حزبه، وإنما أيضاً في نظر الجمهور الإسرائيلي اليميني المتطرف، بصورة عامة. وحافظ على ذلك حتى في الاستطلاعات التي أُجريت في ظل حكومة لابيد ـ بينيت، حين كان زعيماً للمعارضة.

البراغماتية

ليس بالضرورة أن يكون الزعيم الفاشي ديكتاتوراً في كل مراحل حكمه، بل يمكن أن يكون الزعيم الفاشي براغماتياً أيضاً، للوصول إلى أهدافه البعيدة، وهذا لا يُفقده الزعامة، لأن القطيع مطيع، وإن تباينت التوجيهات أو الاتجاهات، ولأن القطيع يؤمن بأن راعيه سيقوده، في نهاية الأمر، إلى المرعى الجيد أو إلى الحظيرة الدافئة، ولا مجال للتشكيك في ذلك.

نتنياهو، بخلاف والده بن تسيون نتنياهو، الذي يُعَدّ أحد الأيديولوجيين الكبار في التيار الصهيوني التصحيحي إلى جانب جابوتنسكي، أبدى مرونة في مواقفه السياسية، لأن متطلبات السياسة لا تقبل التمسك بالأيديولوجيا علناً، ولأن الظرف الدولي وعلاقات "إسرائيل" بالقوى الليبرالية في الغرب، وميزان القوى السياسي في "إسرائيل" تتطلب ذلك، ويكون الامتحان الحقيقي في اللحظة التي يسيطر فيها الزعيم على مقاليد الحكم بالكامل من دون حسابات الخارج والداخل.

وهذه هي لحظة نتنياهو، اليوم، أو انه اقترب منها، وهو يحظى بدعم سياسي يميني محافظ من دون حاجة إلى المساومة مع حلفاء ليبراليين. قد لا يكفيه حلفاء الداخل، وهو يحتاج إلى حلفاء محافظين في الخارج أيضاً، أي عودة الحزب الجمهوري إلى الحكم في أميركا، وعندها لن يبقى امام نتنياهو أي عائق للتقدم نحو أهدافه الأيديولوجية المتوارثة من والده أو من جابوتنسكي، ولن يكون لديه أي سبب للبراغماتية وقبول المساومات.

بين المسؤولية العليا وتوزيع المسؤوليات

يُتقن نتنياهو توزيع المسؤوليات بين حلفائه، فيُلقي على الآخرين مسؤوليات قذرة يحمّلهم تبعاتها، وأخرى تتلاءم مع برامجهم وطموحاتهم، لكنه يعود، بين الحين والآخر، ليذكّرهم بأنه هو الزعيم الأقوى.

نتنياهو يُمسك بن غفير عن اقتحام المسجد الأقصى، لكنه، في الغرف المغلقة، يرشده إلى اختيار التوقيت الملائم للدخول والخروج، وضرورة المرافقة الأمنية الكبيرة، متحدياً بذلك كل العالم الإسلامي. من ناحية واحدة، يرخي الرسن لبن غفير ويحمّله تبعات ذلك الاقتحام إذا ما حدثت تداعيات، ومن ناحية أخرى يُبقيه مربوطاً به بخيط رفيع وقوي، يشده حين يتطلب الأمر ذلك. كذلك الأمر بالنسبة إلى سموطرتش وطموحه ليكون وزيراً للحرب. لم يلبِّ له نتنياهو ذلك، فقدّم عليه عضو الليكود الجنرال غالانط، المقبول من واشنطن ومن الليكود أيضاً، ليكون وزيراً للحرب، وأعطى سموطرتش وزارة المالية مع منصب وزير ثانٍ في وزارة الحرب، وصلاحيات تخص العلاقة بالمستوطنين، أُخِذَت من وزير الحرب غالانط.

لم يختلف نتنياهو في أمر يريف لفين، وزير القضاء، والذي يحمل ملف القضاء للانقلاب على الحكم من خلال التغييرات القانونية الجوهرية والانقلاب على المحكمة العليا والمستشارين القضائيين عموماً، أو تقزيم صلاحياتهم.

في الأيام الأخيرة تخرج أصوات عربية، ومنها فلسطينية رسمية، تطالب الشبان المقاومين بعدم القيام بأي عملية فدائية مسلحة ضد الاحتلال، بحجة أن هذه العمليات "تؤدي إلى رد من قوات الاحتلال بمزيد من الاستيطان، وقد تؤدي إلى اجتياح الضفة الغربية أيضاً". هل حقاً إن إقامة مستوطنات جديدة، أو توسيع الاستيطان، أو تبييض البؤر الاستيطانية، هو رد فعل على عمليات المقاومة؟

لسنا في حاجة إلى مراجعات كثيرة لنؤكد أن الأرقام تكذّب هذا الادعاء. ويكفي أن نذكّر هؤلاء بأن عدد المستوطنين بلغ 270 الفاً عام 1993، لكنه ازداد في ظل المفاوضات وتراجع المقاومة ليصل اليوم إلى أكثر من 750 ألف مستوطن في المناطق المحتلة عام 1967. ونذكر أيضاً أن ما تضمنه برنامج الحكومة الحالية، قبل عملية المقاومة في النبي يعقوب، يقضي بزيادة عدد المستوطنين في المناطق ذاتها إلى مليون مستوطن.

بالإضافة إلى ذلك، يعلم كل متابع بأن إعلان مستوطنات جديدة لا يحدث بين ليلة وضحاها، فالتخطيط والمصادقات تأخذ أعواماً، وقد تصل إلى عشرة أعوام أيضاً. ومن يراقب الإعلام الإسرائيلي يعلم جيداً بالخطط الإسرائيلية القديمة لإقامة حيّ جديد في أراضي مطار قلنديا يضم 9000 وحدة سكنية، وأن مخططات إقامة حي استيطاني جديد في جبل المكبر هو مخطط قديم ومعلن، وأن هناك 100 مخطط بناء على طاولة بلدية القدس المحتلة للمصادقة النهائية عليها.

وإن تهجير عرب الجهالين شرقي القدس هو مخطط قديم منذ الانتفاضة الأولى، وإن تهجير عرب خان الأحمر هو مخطط قديم أيضاً يهدف إلى الفصل بين جنوبي الضفة وشماليها. وإن مخطط إقامة مدينة جديدة غربي "أريئيل" تصل المدينة الاستيطانية بمنطقة غربي الخط الأخضر هو مخطط قديم أقرته الحكومة الحالية في اجتماعها الأول، وإن تبييض 80 بؤرة استيطانية مشمول في اتفاقية الائتلاف الحكومي، وإن السبب الوحيد في تأجيل العمل في أي مشروع استيطاني هو الخوف من تصاعد المقاومة الفلسطينية.

يعلم كل من يريد أن يعلم، وفق الأبحاث المدعومة بالرسوم البيانية، بأن الاستيطان يتصاعد بتراجع المقاومة، ويتراجع بتصعيد المقاومة، وكل من ينكر ذلك هو جاهل، في أقل تقدير، أو له غايات أخرى لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية.

الصهيونية لا تحتاج إلى عمليات فدائية لتستخدمها ذريعة لزرع مستوطنات جديدة، بل تحتاج إلى تنسيق أمني وحالات إحباط وتراجع لتنفيذ مخططاتها. دائماً وأبداً كان الاستيطان غاية صهيونية عليا، ودائماً وأبداً مارست الحركة الصهيونية أيديولوجيتها الاستيطانية والعدوانية، وفق مبدأ "حساب المخاطر"، وهذا ما يقوله كبار الاستراتيجيين الصهاينة أنفسهم.