بين الفاشل والأفشل..

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو صفعة قويّة تهزّ المعتقدات التي تأسّس عليها مشروع بناء اتحاد جيو سياسي عبر سوق مشتركة. لكن الانسحاب إلى العزلة قد يكون أشبه بنعامة تخبأ رأسها في التراب.

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، هو صفعة قويّة تهزّ المعتقدات التي تأسّس عليها مشروع بناء اتحاد جيو سياسي عبر سوق مشتركة
الضربة الموجّهة إلى الاتحاد الأوروبي، بحسب تعبير أنجيلا ميركيل، هي لأنها قطعت حبل الثقة بقدرة الاتحاد على التوسّع منذ اللبنة الأولى لأعضائه الست. فبريطانيا الخارجة عن هذا المسار لم تتكبل بكل الأعباء الثقيلة التي تتكبل بها الدول الأعضاء، وبقيت كمن يضع رجلاً في البور ورجلاً في الفلاحة في تفككها من العملة المشتركَة (اليورو). لكن خروجها في خضم أزمات تضرب الجذور الأوروبية، يدغدغ أحلام العنصرية البيضاء في المراهنة على توظيف الأزمات للصعود إلى الحكم في مواجهة الأعراق الأخرى وثقافاتها.

والحال، ذهب "دونالد ترامب" أبعد من اليمين المتطرف في فرنسا والنمسا وألمانيا، في وصفه الخروج "بالقرار العظيم الذي أدّى إلى استعادة البريطانيين وطنهم مرّة أخرى"، ووعد باستعادة الولايات المتحدة، في إشارته إلى منع المسلمين من دخول الأراضي الأميركية.

أزمة اللاجئين السوريين كشفت أن أوروبا مجتمعة أعجز من بلدين صغيرين كلبنان والأردن، على استيعاب أزمة انسانية ساهمت باختلاقها في تفجير موطنهم وبيئتهم الطبيعية. لكن هذه الأزمة كشفت في الوقت نفسه أن أوروبا التي ترى نفسها حصناً حصيناً لحقوق الانسان في العالم، غير مهيأة في داخلها وعلى أراضيها للإغاثة الانسانية. والمفارقة أن اليمين العنصري والفاشي الصاعد على أزمة الاتحاد الأوروبي بين الإدعاء بالعظمة والعجز، يأخذ من الاتحاد الإدعاء لكنه يأخذ عليه ما يحفظ ماء الوجه في ذرف الدموع.

التطلع إلى مشروع وحدوي في أوروبا ليس أوروبياً داخلياً فحسب، إنما يستند أيضاً إلى التمدد الأوروبي في المحيط وأبعد. فشارل ديغول استند إلى الامتدادات الفرنسية في المغرب العربي لموازاة ألمانيا في قاطرة الاتحاد الأوروبي، وفق توضيح له شهير. 
ولا ريب أن الأصداء التي حظيت بها ولادة الاتحاد في المستعمرات السابقة، ساهمت بتعزيز توسّع النفوذ الاوروبي في هذه المناطق وانعكست على داخل أوروبا. ولعل الإطناب الأكبر للمجد الاوروبي كان في محيط أوروبا ولا سيما في العالم العربي. فطيلة عقود اشتغلت نُخب الانفتاح على ما اصطلح على تسميته النموذج الأفضل للوحدة مقارنة مع دعوات الوحدة العربية. وفي هذا السياق لم تزل معظم النخب العربية متأثرة بأطروحات التكامل الاقتصادي في السوق الحرة وتشجيع الاستثمار الاجنبي، فضلاً عن الطموح إلى الانتماء للاتحاد في مشاريع الشراكة والاتحاد المتوسطي وغيرها.

التحدي الجيوسياسي الكبير، كما عبّرت صحيفة "الفايننشايل تايمز"، هوالإفاقة في أوروبا على مشروع فاشل كشفه خروج بريطانيا. فحالة الطوارىء التي تبدأ بين المفوضية الأوروبية والمجلس والبرلمان الاوربيين في بروكسيل، لا تحمل في طيّاتها أكثر من آمال بعودة الثقة تمهّد للقمة المقبلة في اللكسمبورغ. 
وبحسب ما يتضح من انفعالات هولاند وميركيل، لا يبدو الحديث عن رسم مستقبل جديد لأوروبا اكثر من إعادة التأكيد على المؤكد. وقد يتساوى في هذا الأمر ما سمّاه رئيس الوزراء الاسباني "إصلاح الاتحاد" أو ما وصفه نظيره السويدي بـ"نداء الاستيقاظ". 
فخروج بريطانيا يصيب الصناعة الألمانية بكارثة أشار إليها رئيس جمعية التجارة الخارجية الألمانية "أنتوني بويرنر"، لكنه يفيد اللكسمبورغ بنقل مصارف أوروبية إليها من لندن. وفي هذا الخضم الذي أثارته مؤسسات المال والأعمال للتأثير في بقاء بريطانيا حفظاً لاستمرار الثقة، مصائب قوم عند قوم فوائد ولا سيما أن القومين عائلات من ذوي القربى.

قيادات الاتحاد الواقفة على فشل المشروع الأوروبي، قد لا تتطلع إلى مراجعة نقدية في أسباب الفشل. لكنها في مقابل الانسحاب إلى قوقعة أبرز ما فيها انفجار العصبية العرقية، الضدٌّ يُظهر حسنُه الضدُّ.