تدخل
الأزمة الأوكرانية عامها الرابع من دون أن تلوح في الأفق ملامح تسوية لنزاع أرادته
كييف مع موسكو بعد الانقلاب على اتفاق 21 شباط / فبراير عام 2014 والذي نصّ على
عدد من البنود الإصلاحية كانت المعارضة المدعومة من الغرب تريد تحقيقها ووضع حد
لحكم حليف روسيا الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش، ولكن لم تمض ساعات
على توقيع الاتفاق حتى اشتعل الميدان في وسط كييف ( ساحة الاستقلال) وشهد تطوّرات
دراماتيكية أطاحت بيانوكوفيتش الذي أعلن قبل ساعات عن التوصّل إلى حل توافقي، ولكن
الرادا (البرلمان الأوكراني) ردّ على إعلان الرئيس بالتصويت على عزله والدعوة
إلى إجراء انتخابات رئاسية مُبكرة في أيار / مايو من العام عينه.
قرارات
البرلمان هذه وضعت حداً للصداقة مع موسكو على الرغم من حزمة الدعم غير المسبوقة
التي قدّمتها روسيا لأوكرانيا في كانون الأول / ديسمبر عام 2013 لثنيها عن
الانضمام إلى اتفاقية الشراكة الأوروبية.
جارتان
عدوّتان على حدود أوروبا
لم
تكن موسكو تعتقد ولو لبرهة أن جارتها كييف ستصبح خصماً لدوداً لها، وتصل
الأمور إلى حد الاستقواء بالحلف الأطلسي ضدّ دولة كانت حتى الأمس القريب بمثابة
الشقيق الأكبر ومصدراً لرزق نحو ثلاثة ملايين أوكراني يعملون على الأراضي الروسية
منذ عقود، عدا عن التداخل الاجتماعي والديني والثقافي بين جمهوريتين كانتا
تشكّلان مع بيلاروسيا (روسيا البيضاء ) وكازاخستان العمود الفقري للاتحاد
السوفياتي السابق.
موجة
العداء المتصاعدة في أوساط الأوكرانيين لروسيا غير مسبوقة في تاريخ الجارتين
باستثناء تداعيات المجاعة مطلع ثلاثينات القرن الفائت، والتي حمّلت إبّانها كييف
الزعيم السوفياتي الراحل يوسف ستالين المسؤولية الكاملة عن مقتل وتجويع مئات آلاف
الأوكرانيين، ولكن انتهاء عهد ستالين وتولّي الأوكراني نيكيتا خروتسوف الحكم عام
1956 وضع حداً للتباعد بين الجمهوريتين وإن كانت الخلافات غير مسموحة إبّان الحُكم
السوفياتي ونادراً ما كان التعبير عنها يظهر إلى العلن.
لكن
الظروف تبدّلت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 وإعلان الجمهوريات
السوفياتية ال15 استقلالها، وكانت أوكرانيا واحدة من الجمهوريات التي أعلنت ما
يشبه الحياد في الخامس من كانون أول / ديسمبر عام 1994، بعد ما وقّعت كل من
روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا اتفاقاً مع أوكرانيا، ينصّ على أن تكون هذه
الدول الثلاث ضامنة لسلامة ووحدة أراضي الجمهورية السوفياتية السابقة، مقابل تخلّي
الأخيرة عن السلاح النووي.
تخلّي
كييف عن السلاح النووي جاء في سياق تحسّن العلاقات بين موسكو وواشنطن في عهد أول
رئيس روسي بوريس يلتسين والذي تتّهمه قوى سياسية روسية كثيرة بأنه فرّط بإنجازات
الاتحاد السوفياتي، وخضع للغرب في أكثر من محطة إلى حد لم يعد يعير الغرب أية
أهمية لموسكو وجبروتها، واستمر عهد التنازلات لواشنطن إلى حين تولّي الرئيس
فلاديمير بوتين السلطة للمرة الأولى عام 2000، حيث شكّل ذلك التاريخ بداية
"المرحلة البوتينية" لإعادة الحضور الروسي إلى الساحة الدولية بعد 9
سنوات من التخبّط.
حاول
بوتين طمأنة الجمهوريات المجاورة لروسيا وخصوصاً أوكرانيا التي كانت تشهد مرحلة
صعود الأجنحة القومية المتطرّفة المقرّبة من بولونيا، والأخيرة كثيراً ما ناصبت
الخصومة لموسكو وتجلّى ذلك في الحرب العالمية الثانية حيث شارك بعض البولونيين مع
القوميين الأوكران في قتال الجيش الأحمر السوفياتي، وليس صدفة أن يرفع خصوم موسكو
خلال "ثورة الميدان عام 2014 " صوَر ستيبان بانديرا الذي يعتبرونه زعيم
الحركة الاستقلالية الأوكرانية التي تحالفت مع النازية ضدّ موسكو، ما دفع الكرملين
إلى حظرها ومن ثم اغتياله في ألمانيا عام 1959 .
المحطّات
هذه تؤكّد على رغبة الحركات القومية الأوكرانية في تجاوز تاريخ مشترك مع روسيا
امتد لعقود كثيرة من دون الالتفات إلى أن ما يجمع الجارتين كان عميقاً جداً، وليس
مصادفة أن يكون نصف سكّان كييف من الروس أو من الناطقين بالروسية، وكذلك سكّان
خاركوف ودانيتسك ولوغانسك ومعهم دنيبرو بتروفسك وأوديسا في شرق وجنوب
أوكرانيا، وليس مصادفة أن يقسّم نهر الدنيبر الذي ينبع من بيلاروسيا ويصبّ في
البحر الأسود أوكرانيا بين شرق مقرّب ومندمج مع روسيا وغرب يرى في أوروبا الجنّة
على الأرض.
وسط
هذه التعقيدات إلى أين يمكن للأزمة الأوكرانية أن تصل وهل يمكن أن تشتد لتتجاوز
حدود الجمهورية السوفياتية السابقة .
ليس
في مقدور كييف أن تشنّ حرباً واسعة النطاق لاستعادة مقاطعتي دانيتسك ولوغانسك
المحاذيتين لروسيا، لا سيما أن غالبية سكانهما ترفض العودة إلى بيت الطاعة
الأوكراني بعد سيطرة اليمين المتطرّف وبشكل شبه كامل على مقاليد السلطة في كييف
منذ أيار / مايو عام 2014، إضافة إلى تصميم البرلمان على التنكّر لحقوق الناطقين
باللغة الروسية بعد أن ألغى اعتماد الروسية كلغة ثانية في البلاد، وحظر العديد من
الأحزاب أبرزها حزب الاقليم الذي أسسه الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، وكذلك حظر
الحزب الشيوعي والتنكيل بنوابه وكوادره وصولاً إلى التنكّر التام لتضحيات الشعب
الأوكراني خلال الحرب الوطنية العُظمى (1941-1945)، من خلال إلغاء الاحتفال بعيد
النصر على الفاشية (9 أيار/ مايو)
هذه
المُعطيات معطوفة على أعلى درجات العداء لروسيا الظاهرة للعيان في وسط كييف من
خلال تصوير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كقاتل للشعب الأوكراني، وأيضاً رسم صوَره
بشكل لا يليق البتّة برئيس دولة مجاورة تربطها علاقات ودٍ تاريخية بكييف، تشي بأن
السلطات الأوكرانية تبحث عن نصر وحتى وإن كان صوَرياً في الدونباس (شرق
أوكرانيا) مع اختيار باراشنكا توقيتاً لافتاً للتصعيد العسكري والذي جاء بعد ساعات
على أول اتصال بين الرئيسين الروسي والأميركي، عدا عن توقيته أيضاً مع زيارة
الرئيس الأوكراني إلى ألمانيا ومن ثم قطعه للزيارة والعودة إلى بلاده متّهماُ
بوتين ببدء الهجوم على الجيش الأوكراني قرب دانيتسك، وليقرّر لاحقاً تنظيم استفتاء
لانضمام بلاده إلى الحلف الأطلسي بعد أن أصدر البرلمان قانوناً يسمح لقوات من
الأطلسي المشاركة في مناورات عسكرية غربي البلاد.
الأحداث
هذه ليست وليدة الساعة وإنما تعود إلى سنوات قبل اشتداد الأزمة الحالية ،
فروسيا التي فقدت الحُكم الموالي لها في أوكرانيا في انتخابات 2005 فتوفّرت أمام
واشنطن الظروف المؤاتية لأميركا للاستفادة من نتيجة تلك الانتخابات لا سيما أن
صديقها فيكتور يوشنكو نجح في الوصول إلى سدّة الرئاسة بعد ما عُرف بالثورة
البرتقالية، واسـتغل فترة حكمه لتسريع التكامل بين أوكرانيا مع الغرب، وطوال
الفترة التي قضاها في منصبه، كان يوشينكو يهدّد بطرد أسطول البحر الأسود الروسي من
سيفاستوبول (شبه جزيرة القرم) عند انتهاء عقد الإيجار العسكري الروسي والذي
كان محدّداً في العام 2017 . ولم يخف يوشينكو رغبته في دمج أوكرانيا بالكامل في
مؤسسات غربية مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي. وقد دخلت كييف
مفاوضات على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وطالبت بخطة عمل للعضوية في
الناتو، وأصبحت أوكرانيا في تلك الحقبة شريكاً استراتيجياً رئيسياً للولايات
المتحدة الأمريكية، وكانت تقوم بتقديم المساعدات الاقتصادية لها، حتى إنها كانت في
الدرجة الثالثة بعد (إسرائيل) ومصر في قائمة المساعدات الأمريكية، وذلك لقطع تواصل
كييف مع موسكو لاسيما أنها كانت تعتمد وبشكل رئيسي على روسيا اقتصادياً،
ولكن كييف لا تزال تعتمد على الغاز الروسي بشكل أساسي كمصدر من مصادر الطاقة.
وراهناً فقدت نحو 9 ملايين طن من أصل 24 تحتاجها في الشتاء للتدفئة بعد أن أعلنت
دانيتسك استقلالها وهي المعروفة بوفرة مناجمها التي كانت تزوّد كييف والمناطق
الغربية بكميات كبيرة من الفحم.
وفي
سياق آخر هل كييف قادرة فعلاً على شنّ عملية عسكرية في شرق البلاد.
الإجابة
على هذا السؤال أقرب إلى النفي وأن كانت تعمل على جلب الاستعطاف الغربي ومعه
الأميركي لمواجهة روسيا الرازحة تحت العقوبات الغربية منذ سنوات بسبب الأزمة
الأوكرانية، وضم شبه جزيرة القرم بعد استفتاء آذار / مارس 2014، إضافة إلى تخبّط
كييف في أزمة اقتصادية منذ أربع سنوات لا سيما أن العملة الوطنية فقدت نحو 300 في
المئة من قيمتها، فبعد أن كان سعر صرف الدولار يساوي 8 غريفنات عام 2014
(الغريفن هي العملة الوطنية في أوكرانيا)، بات اليوم يساوي نحو 30 غريفن (السعر
الرسمي 27 غريفن لكل دولار أميركي).
الرئيس الاوكراني يلعب أوراقه الاخيرة على جبهة الدونباس