تمرد مجموعة "فاغنر": أميركا تنفي دورها وتراهن على إضعاف بوتين
مسلسل "النفي" الأميركي للتورط في تمرد "فاغنر" لم يصمد طويلاً، وسرعان ما ناقض مدير الاستخبارات المركزية إعلانه السابق، بعد حرصه على نشر أقواله في كبريات وسائل الإعلام الأميركية، عملاً بمقولة: "يكاد المريب أن يقول خذوني".
بعد صمت قصير، سارع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى "نفي أي علاقة" لبلاده في تمرد رئيس مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين في روسيا، تلاه نفي مدير وكالة الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز.
مسار النفي جاء من أعلى الهيئات الرسمية الأميركية، وأرفقه مدير الاستخبارات بمبادرته إلى الاتصال بنظيره الروسي، سيرغي ناريشكين، لطمأنته وإيصال رسالة مفادها أنّ "الولايات المتحدة ليس لها أيّ دور في الفوضى الداخلية في روسيا"، مشدداً على أن ما جرى هو "مسألة روسية داخلية" (صحيفة "وول ستريت جورنال"، 30 حزيران/يونيو2023).
لكن مسلسل "النفي" لم يصمد طويلاً، وسرعان ما ناقض مدير الاستخبارات المركزية إعلانه السابق، بعد حرصه على نشر أقواله في كبريات وسائل الإعلام الأميركية، عملاً بمقولة: "يكاد المريب أن يقول خذوني".
في 2 تموز/يوليو الجاري، حطَّ بيرنز في لندن مخاطباً جمهور النخب الفكرية والسياسية البريطانية في مؤسّسة "ديتشلي"، قائلاً إن حالة "الاستياء من الحرب ستظل تهدّ في القيادة الروسية. هذا الاستياء يخلق فرصة لا تأتي إلا مرّة في كل جيل لنا في "السي آي إيه"، ولن نهدر هذه الفرصة"، وهو ما اعتبرته وسائل الإعلام إشارة إلى دور وكالة الاستخبارات المركزية في تجنيد عُملاء لها في أوراسيا تحديداً.
ومضى بيرنز مسترسلاً للحطّ من مكانة روسيا وقدرتها، لافتاً إلى أن "حرب بوتين باءت بفشل استراتيجي، وكشفت عن نقاط ضعف في جيشه"، وأضاف: "من دون أوكرانيا، يتعذّر على روسيا أن تكون قوة عظمى"، وامتداداً "يتعذر على الرئيس بوتين أن يكون زعيماً عظيماً".
في السياق نفسه، أشارت وسائل الإعلام الغربية إلى قيام مدير الاستخبارات المركزية بزيارة "سرّية" إلى أوكرانيا، قبل تمرد فاغنر المعلن بساعات معدودة، ولقائه "الرئيس فولوديمير زيلينسكي ونظراءه في أجهزة الاستخبارات".
وأشارت شبكة "سي أن أن" الأميركية إلى أن "الاستخبارات الأميركية كانت تعلم بهذا التمرّد"، لكنها فضلت عدم التحدث عنه في مراهنتها على "نجاحه"، وحافظت على سرّية ما توصلت إليه من "صورة دقيقة وبالغة التفاصيل لخطط زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين"، وشاركت مجموعة ضيّقة من حلفائها بتلك المعلومات، "من بينهم كبار المسؤولين في بريطانيا" (27 حزيران/يونيو 2023).
يذكر أيضاً أن وكالة الاستخبارات المركزية "دشّنت مؤخراً حملة" تجنيد عبر منصات التواصل الاجتماعي، خصوصاً تلغرام، تستهدف مواطني روسيا، "وتعرض عليهم توجيهات لكيفية التواصل معها" عبر اتصال آمن في شبكة الإنترنت.
ربما يكون تبنّي حكم بالجزم أو النفي لدور الولايات المتحدة سابقاً لأوانه بناءً على ما تقدم من معطيات، لكن توارد التصريحات من مختلف المراتب السياسية والعسكرية الأميركية يندرج في إطار الاستراتيجية الأميركية العليا لتهميش روسيا و"إلحاق هزيمة استراتيجية بها"، بحسب تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن.
كما أننا لا نزعم معرفة خلفية التمرّد إن كان "منسقاً" أو جزءاً من خطة الرئيس بوتين للإيقاع بخصومه وكشف مديات الدعم الداخلي والدولي لعناصر المجموعة، كما يتردّد بقوّة بين النخب السياسية والفكرية الأميركية، أو استغلال الجانب الأوكراني ما توفّر له من معلومات بشأن التحرك لتحقيق بعض الإنجازات الميدانية.
أما مستقبل مجموعة فاغنر وزعيمها المنفي في بيلاروسيا، فهو منوط بالقرار الروسي حصراً، ولا ينبغي الاسترسال في عدد من الاحتمالات التي لا تستند إلى وقائع.
ما يجري راهناً من تطورات هيكلية في الجيشين الأميركي والروسي هو أمر لافت بكل المقاييس. في الشأن الأميركي، أجمعت وسائل الإعلام المرئية والمقروءة على أن "القوات المسلحة الأميركية تواجه تحديات تجنيد كبيرة في صفوفها تكاد تصل إلى أزمة". وفي التفاصيل، أخفقت جهود التجنيد الدورية في تحقيق الحد الأدنى المطلوب لأفرع القوات المسلحة المختلفة، ولم تتجاوز نسبة نجاح القوات البرية 52% خلال العام الحالي.
وأفادت شبكة "سي أن أن"، عشية احتفال البلاد بعيد الاستقلال، بأن أفراد وحدات الدفاع الجوي الأميركي مرهقة نتيجة ضغوط المهمة، فيما تعمل القيادة العسكرية على تنفيذ تغييرات لتخفيف بعض الضغط، من بينها تقديم مكافآت مالية لجذب مزيد من المجندين إلى وظائف معينة في سلاح الدفاع الجوي، بما في ذلك تشغيل بطاريات صواريخ باتريوت ونشر متخصصين في الصحة العقلية لمعالجة أفراد تلك الوحدات من الإرهاق الذي يتعرضون له.
وحذّر القادة العسكريون الأميركيون من أن وحدات الدفاع الصاروخي في الخطوط الأمامية في البلاد استنفدت، وهي منهكة للغاية (شبكة "سي أن أن"، 3 تموز/يوليو 2023).
وفي الشأن الروسي، أفادت وكالات الأنباء الغربية بقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رفع رواتب قوات الجيش بنسبة 10.5% "بعد أيام من فشل التمرّد المسلّح (30 حزيران/يونيو 2023).
تقييم القادة العسكريين الأميركيين لأداء الجيش الروسي، قبل فشل حالة التمرّد وبعده، أبقى على ارتفاع منسوب ازدراء الخصم الروسي، لكن "استتباب الأوضاع هناك هو حالة ملحّة، وخصوصاً في ظل امتلاكه ترسانة هائلة من الأسلحة النووية".
وأضاف ضابط الاستخبارات السابق ومسؤول القسم الروسي فيها جون سايفر: "نلمس حالة من الخلل الوظيفي في القوات (الروسية) في أوكرانيا، تضاف إلى حالة الخلل العامة وعدم الكفاءة على المستوى الداخلي" (مقابلة أجراها مع شبكة "أن بي آر"، 28 حزيران/يونيو 2023).
أما تقييم المستويات السياسية الأميركية، فيتطابق في تشاؤمه حيال مستقبل روسيا ووحدة أراضيها. ونشرت يومية "نيويورك تايمز" مقالاً بعنوان ساخر: "بوتين يعتقد أنه لا يزال يسيطر، لكنه بخلاف ذلك"، وأوضحت أن "المتشددين، ومعظمهم يؤيدون بريغوجين، ينشطون بشكل كبير على تطبيق تلغرام، وباستطاعتهم انتقاد السلطة (السياسية) من دون الخشية من أي عواقب، لكن حالة التمرّد أضعفت سيطرة الرئيس بوتين بشكل كبير" ("نيويورك تايمز"، 30 حزيران/يونيو 2023).
بعد التسليم الغربي بفشل "التحدّي غير المسبوق لسلطة الرئيس بوتين"، تشير آفاق المرحلة المقبلة، من وجهة نظر أميركا وحلفائها عبر الأطلسي، إلى مضاعفة جهود الإمدادات العسكرية لأوكرانيا لحثها على مواصلة الحرب لفترة أطول، لعلّها تفضي إلى بعض الإنجازات الميدانية، مهما كانت متواضعة، من أجل تنشيط مرحلة المفاوضات الحتمية.
الثابت أيضاً في تلك القراءة ما كان ينتظر روسيا من مخططات لإطاحة الرئيس بوتين، أفصحت عنها وزيرة الخارجية البريطانية السابقة ليز تراس أمام مجلس العموم قائلة: "نحن وحلفاؤنا، بمن فيهم الأوكرانيون والبولنديون ودول البلطيق، بحاجة إلى التأكد من أن لدينا خطة (جاهزة) في حالة انهيار روسيا" (26 حزيران/يونيو 2023).
ويشاطرها الطرف الأميركي في انتهاز ما أفضت إليه الأزمة من "اهتزاز حكم بوتين. وعلى المدى القصير، قد يبدو الأمر كما لو أن بوتين نجا من محاولة الانقلاب العرضية لبريغوجين فإن شيئاً ما قد تغير في روسيا"، لكنَّ نخبها الفكرية المؤثّرة "لا تعتقد أن الرئيس بوتين ضعف بشكل كبير"، لعدم انضمام أي من التشكيلات العسكرية إلى حملة التمرّد أو انشقاقها.
وطالبت مجلة "فورين أفيرز" النافذة الولايات المتحدة وحلفاءها "بالتحلّي باليقظة والاستعداد لمواجهة جميع السيناريوهات"، وخصوصاً إذا ترافقت إجراءات الرئيس الروسي المقبلة مع بعض مظاهر عدم الاستقرار"، ومراقبة ما يجري بحذر شديد، و"ليس هناك مصلحة للغرب في الإطاحة المفاجئة بحكم بوتين" (مجلة "فورين أفيرز"، 27 حزيران/يونيو 2023).