تأثير نتائج الانتخابات النصفيّة في الجولة الرئاسية المقبلة
تتلخص أهمية الانتخابات النصفية الأميركية بفتحها كوة صغيرة للاستدلال على توجهات معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2024، وخصوصاً دور كل من الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب.
إنَّ فحص نتائج الانتخابات النصفية الأميركية وما قد تقود إليه من استنتاجات لجولة الانتخابات الرئاسية المقبلة ينطوي على التسليم بالفرضية الرسمية، أي إن ما جرى هو في نطاق طبيعي لتداول السلطة بين حزبين تتلاشى الفوارق بينهما، والخروج بتوجه يبقى أسير المراوحة بينهما من دون أفق حقيقي لتعديل في سياسات دولة عظمى، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي بشكل خاص.
يلجأ عقلاء المجتمع الأميركي إلى ترديد توصيف شكسبير في روايته الشهيرة "ماكبث" بأنَّ نتائج ما جرى تتمثل بـ"كثير من الضجيج للاشيء"، وهو ما أكّدته نتائج تبادل الحزبين مواقع السيطرة على مجلسي الكونغرس بنسب ضئيلة لكلٍّ منهما، وعكسه أيضاً استمرار معدلات اللامبالاة الشعبية وتعميق مستويات الشرخ والانقسام البارزة التي لا حلول لها في ظل توافق الحزبين على عدم مراجعة أسس نظام الكيان السياسي، ناهيك بإدخال "إصلاحات" عليه توسّع هامش المشاركة، كما يطالب الخطاب السياسي الأميركي رسمياً دولاً ونظم حكم أخرى.
أمام مشهد حصرية تقاسم المقاعد في الانتخابات بين الحزبين، في الحالة الراهنة - فاز الجمهوريون بـ220 مقعداً في مجلس النواب في مقابل 212 مقعداً للديمقراطيين - فإنَّ المعركة الحقيقية تجري يومياً على مستويات أدنى في الهرم السياسي، ممثّلة بالسيطرة على مناصب حكام الولايات وتركيبة مجالسها التشريعية والتحكّم في توجهاتها، الأمر الذي مهّد الساحة السياسية للتيارات المتشددة وأكثرها يمينية في المجتمع للتأثير في مرشحين يلتزمون تنفيذ أجندتها السياسية.
وقد حصدت تلك التيارات نتائج صبرها الطويل بالفوز في تركيبة المحكمة العليا، وإصدار الأخيرة قرارات تبطل مفاعيل قرارات "ليبرالية" سابقة عمرها 5 عقود ونيّف، جوهرها المسّ بالحقوق الفردية لشريحة تمثل نصف المجتمع على الأقل.
بيانات جولة الانتخابات النصفية تشير إلى سيطرة الحزب الجمهوري على 56 مقعداً في المجالس التشريعية في عموم الولايات الخمسين، في مقابل 39 للخصم الديمقراطي، ما يمثّل خسارة صافية للحزب الديمقراطي بنحو 16 مقعداً في تلك المجالس، في مقابل ربح صافٍ للحزب الخصم بـ24 مقعداً.
تباين قوانين الولايات بشأن آليات حسم الانتخابات أدّى إلى تأخير نتائج مقعد ولاية جورجيا في مجلس الكونغرس، نظراً إلى عدم حصول أي من المرشحيْن المتنافسين على نسبة النصف زائد واحداً.
دور المال السياسي في حسم النتائج وطبيعة المترشّحين يطرحان باستمرار مع كل دورة انتخابية، لكن سرعان ما يتراجع الجدل بشأنهما أمام الضخ الإعلامي الهائل وحسمه مصحوباً ببيانات متعددة ومتواصلة لاستطلاعات الرأي التي ما تلبث أن تتصدّر مادة التداول الأولى للفت انتباه المواطن وحرف الأنظار عن أولوياته الحقيقية ومتطلبات الحلول.
السباق الرئاسي في دورة العام الجاري لمنصب مجلس الشيوخ في ولاية بنسلفانيا شكّل نموذجاً صارخاً لنفوذ المال السياسي، وخصوصاً بعد استصدار تشريعات سابقة ترفع سقف مديات الصرف وحجم التبرعات لتمهّد طريق النفوذ أمام كبار رؤوس الأموال والتحكّم في أجندات السياسية.
بلغ حجم الإنفاق على السباق إلى منصبٍ في مجلس الشيوخ لولاية بنسلفانيا "أكثر من 164 مليون دولار"، متجاوزاً بذلك الرقم الأعلى السابق لعام 2014 في انتخابات ولاية نورث كارولينا، الذي بلغ 112 مليون دولار.
وصعدت مستويات الإنفاق في بنسلفانيا إلى معدلات "فلكية"، بحسب بيانات "مركز الاستجابة للسياسات - Center for Responsive Politics" المستقل، مضيفاً أن الرقم النهائي سيشهد ارتفاعاً جديداً بعد تقديم الفريقين بياناتهما للسلطات المختصة في وقت لاحق من الشهر الحالي.
وأشار الأستاذ الجامعي في جامعة فرانكلين ومارشال في بنسلفانيا، تيري مادونا، إلى خطورة المال السياسي قائلاً إنّ فرط الإنفاق "يجافي مبرراته، لكننا ندرك أن الهدف منه هو السيطرة والتحكم في توجهات واشنطن" السياسية (صحيفة "ذي مورنينغ كاول" The Morning Call،17 تشرين الثاني/نوفمبر 2022).
وأوضحت صحيفة المال والاستثمارات "وول ستريت جورنال"، في عددها الصادر يوم 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أولويات الأجندة التي تنتظر مجلسي الكونغرس في تركيبته الحالية لبتّها على الفور، وعلى رأسها "الإنفاق على الدفاع"، وكذلك "رفع معدلات سقف الدين العام" لتمويل مشاريع الحروب الراهنة والمقبلة.
من ميّزات السيطرة على مجلس النواب صلاحياته الواسعة في الإشراف على مداخيل الدولة، وتحديد الميزانيات المختلفة والموافقة على صرفها، وبت النفقات "الطارئة" التي يتبع معظمها ميزانية وزارة الدفاع.
وصرّح بعض أركان الحزب الجمهوري بأنَّ على هيكل المجلس الجديد التصدي لبعض أجهزة الدولة المركزية التي يعارضون توجهاتها، مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي، أف بي آي، ومسيرته السابقة في التصدي للرئيس السابق دونالد ترامب.
وامتداداً، سيسعى النواب الفائزون عن الحزب الجمهوري إلى تهميش دور أعضاء الحزب الديمقراطي في تركيبة لجان المجلس المتعددة، أبرزهم النائبة إلهان عمر، ومن ثم وضع قيادات الحزب الديمقراطي أمام تحدٍّ جديد، ليس في الترويج إلى أجندته فحسب، بل في التأثير في رسم الدور المقبل للكتلة الليبرالية الموسومة بتوجهاتها "اليسارية" أيضاً، وميول بعض أعضائها إلى الفكر "الشيوعي"، بحسب أدبيات التيارات اليمينية والمتشددة.
من المرجّح أن تندلع معركة حامية الوطيس بين الجمهوريين لتقرير منصب رئيس مجلس النواب، الذي سيذهب إلى الحزب الجمهوري بحكم فوزه في الأغلبية، لكن نجاحه في السباق الانتخابي أفرز كتلة من بين أعضائه تعارض تبوؤ الزعيم المفترض كيفن مكارثي هذا المنصب على خلفية الصراع الداخلي بشأن نفوذ الرئيس السابق دونالد ترامب.
وسيحتاج مكارثي إلى دعم من أعضاء الحزب الديمقراطي لتعويض أعداد مناوئيه في حزبه، وهو الذي يمثّل امتداداً طبيعياً "للوضع الراهن"، وتأييد مراكز القوى الأساسية في رأس المال المالي والصناعي له. وبناءً عليه، تبدو بوادر المعركة إعلامية من أجل تسجيل مواقف معينة حاضرة، تمهيداً للإعداد لجولة الانتخابات الرئاسية المقبلة.
على مستوى الأجندات السياسية المرجو تحقيقها في المرحلة المقبلة، لا يتوقع أن يتغلّب أعضاء الكونغرس على ولاءهم الحزبي والتوازنات الراهنة، لصالح إنجاز خطوات حقيقية يبتغيها المواطن، ربما باستثناء تمويلات لوزارة الدفاع، مهما كانت هائلة، وتوافق الحزبين على استمرار الصرف العالي لبناء الجدار على الحدود الجنوبية مع المكسيك.
أهمية الانتخابات النصفية تتلخص في أنها فتحت كوة صغيرة للاستدلال على توجهات معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2024، وخصوصاً دور كل من الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب الذي أعلن رسمياً ترشحه للجولة المقبلة.
يعاني الرئيسان، فيما يخص ثقلهما السياسي لدى حزبيهما ومناصريهما، عقبات متباينة للمضي قدماً كمرشحين لحزبيهما. بات الرئيس بايدن عبئاً على حزبه لجملة أسباب، أبرزها تقدمه في السن والتراجع الملحوظ في قدراته الذهنية، فضلاً عن عثراته في تنفيذ وعوده الانتخابية، وتزايد منسوب مطالبة أعضاء حزبه بضرورة البحث عن مرشّح بديل لا يعاني الترهّل الحالي.
على الرغم من أنَّ الوقت ما زال مبكراً للحديث عن المتصدرين لقائمة المرشحين المحتملين عن الحزب الديمقراطي، فإنَّ بعض قادة الحزب يميل إلى التوافق على حاكم ولاية كاليفورنيا، غافين نيوسم، وخصوصاً بعد فوزه المميّز في الجولة المنتهية، وما تعرّض له من تشويه لإقصائه عن منصبه، بحسب قوانين الولاية الجارية، وتجاوز ذلك بمهارة واقتدار.
أما الرئيس السابق دونالد ترامب، فسيواجه مقاومة من نوع آخر داخل الحزب الجمهوري، خصوصاً بعد الأداء الباهت لمرشحين دعمهم بقوة، وتحميل خطابه المستفزّ والإقصائي المتواصل مسؤولية عدم حصد الحزب نتائج أعلى كما كان متوقعاً.
جمهور الحزب الجمهوري ذاته بدأ يعي حقيقة بعض التغيرات الديموغرافية في توجهات ناخبيه، وخصوصاً أن عام 2024 لن يستنسخ معطيات جولة عام 2020 وما رافقها من جدل قانوني واسع واتهامات موجهة إلى الحزب الديمقراطي لممارسته "الخداع والتزوير" في النتائج، كما يمضي الخطاب السياسي للرئيس ترامب في ترويجه.
إن جهود إقصاء ترامب المتوقعة ستكون أبعد عن السلاسة وضرورات الأعراف السياسية لحزب كان يعاني، ولا يزال، ترهّلاً ملحوظاً في نوعية مرشحيه، فضلاً عن أجندته السياسية الضيقة، الأمر الذي يشير إلى احتدام الصراعات في أقطاب الحزب ومديات الدعم التي ما زال الرئيس ترامب يتمتع بها لدى شريحة معتبرة من مؤيدي الحزب، وخصوصاً الأوساط الريفية المترامية الأطراف، وتسجيله بعض الانتقادات المشروعة ضد قادة الحزب التقليديين.
واقع الأمر يشير إلى تيقّن تيارات المؤسّسة الحاكمة، بكل تياراتها وتنوعاتها المعلنة، بعدم السماح لأي مرشّح من خارج المعادلة السياسية وتوازناتها الراهنة بتكرار ظاهرة ترامب. يشتّد يقينها للتحرّك مبكراً عقب استمرار جولات تحقيق لجان الكونغرس في أحداث غزوة الكابيتول، وتسليطها الضوء مجدداً على ما يمكن وصفه بسلوك تآمري، على الرغم من أن توصياتها لن تكون ملزمة لأي طرف، فضلاً عن حقيقة تحكّم مؤيدي الرئيس ترامب في لجان مفصلية في مجلس النواب المقبل، والإشارات المتعددة التي تطلق تباعاً عن نيّة أولئك الأعضاء تفعيل جهود التحقيق مع الرئيس جو بايدن ونجله هنتر، وخصوصاً في مستوى معادلة الترهيب التي مارسها الأول على الحكومة الأوكرانية لقاء تدفق المساعدات الأميركية إبان توليه منصب نائب الرئيس أوباما، وما أفرزته البيانات المتوفرة في الكشف عن استغلاله نفوذه السياسي في توظيف نجله مستشاراً لدى أوكرانيا براتب شهري عالٍ.