يوم الفرح الجنوبي

بفضل 1276 شهيداً للمقاومة الإسلامية، نحن اليوم الجيل الدي يحيا زمن الحرية، لا الاحتلال ولا الاعتقال ولا العمالة، بل نحيا بصفتنا الجيل الذي سيشهد تحرير سائر الأراضي المحتلة.

  • استطاعت المقاومة الإسلامية جعل التحرير منعطفاً مفصلياً في تاريخ الصراع مع العدو.
    استطاعت المقاومة الإسلامية جعل التحرير منعطفاً مفصلياً في تاريخ الصراع مع العدو.

في زمن تكون فلسطين القضية الأولى والأساسية في العالم، ويكون العداء للكيان الصهيوني واجباً محتماً على كل من عرف معنى الإنسانية، مدركاً أن وجود الكيان منافٍ للإنسانية والرحمة، تُصبح صفحات التاريخ كتاباً يروي حكاية دفاع الشعب عن الأرض، والتكامل بين الشعب والقضية، من خلال معاناته بكل أطيافه، فتصبح مقاومة الرجال والنساء والأطفال والشيوخ ذكرى مُلهمة لحركات المقاومة ولشعب يرزح تحت وطأة الاحتلال حتى يومنا هذا.

بين فلسطين المحتلة وجنوبي لبنان علاقة تمتد جذورها حتى عام 1948، حين تهجر أهل أرض البرتقال إلى أرض الزيتون، معلقين على صدورهم مفاتيح العودة، ووراء المفاتيح، علقوا داخل صدورهم أمل العودة، فكان الجنوب خير ملجأ وخير سند للشعب الفلسطيني.

وصل الأمر إلى حد تقاسم معاناة الاحتلال، بحيث احتل الكيان الصهيوني عدداً كبيراً من القرى الجنوبية اللبنانية، وقام بإنشاء المعتقلات وتجنيد العملاء من الخونة خدمةً لمصالحه. طوال عقدين من الزمن، قاسى أهالي القرى الجنوبية كل أنواع الظلم والإهانة ومحاولات كسر عنفوانهم وسلب أرضهم، فزخر الأرض بحكايات الظلم والفراق والحب والشهادة في سبيل الوطن.

في الجنوب حكايات لا تنتهي عن الإرادة والتصميم ومقاومة الاحتلال وعملائه، وعشق الحرية والدفاع عن الكرامة الإنسانية، يختصرها معتقل الخيام، الذي أنشأه العدو الإسرائيلي في الطرف الجنوبي الشرقي لبلدة الخيام في 3 نيسان/أبريل 1985 عقب إقفال معتقل أنصار.

يتألف المعتقل من عدة مبانٍ و67 زنزانة جماعية و21 فردية، وكان مركزاً للتحقيق حتى دحر العدو من الجنوب.

لفترة طويلة امتدت أعواماً، أشرف على المعتقل ضابط صهيوني يدعى "ياغي"، مارس أشد أنواع التعذيب، نفسياً وجسدياً، بحق المعتقلين، ممن رفضوا التعامل مع العدو أو الانخراط في ميليشياته.

عانى المعتقلون التعذيب وتفشي الأمراض بينهم، في ظل استحالة الحصول على الغذاء والدواء، ومنع أي هيئة حقوقية أو الصليب الأحمر من الدخول لنجدنهم، الأمر الذي أدى إلى زيادة تصميمهم ومقاومتهم. فمن الإضرابات والمحاولات المتتالية للفرار، وصولاً إلى الصمود البطولي في أثناء التعذيب، واستشهاد عدد منهم (زكريا محمد نظر أول شهيد تم شنقه في المعتقل عام 1985)، يختصر المعتقل قضية شعب بأكمله.

عمد المعتقلون في سجون الاحتلال إلى تحويل ربطة الخبز "البلاستيك" إلى إبرة لخياطة ثيابهم، وقاموا برسم عبارات عليها "الجنوب هويتي"، "الزوبعة، "المطرقة والمنجل"، "الله أكبر"، فمنع بعدها العدو إدخال الربطات إليهم.

ومن أشكال المقاومة التي اعتمدها المعتقلون، تهريب الرسائل إلى اللجنة المختصة بمتابعة قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون الإسرائيلية عام 1992، والتي تصف الوضع داخل السجون وتتحدث عن اعتقال الأطفال وتعذيبهم، وهو الأمر الذي يُعَدّ مخالفاً لاتفاقية حقوق الطفل، التي تحظر أي اعتداء على الطفل، جسدياً أو نفسياً، أو حرمانه من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية.

لم يطالب المعتقلون آنذاك بالمال أو المساعدة داخل المعتقل، بل ناشدوا رئيس الجمهورية اللبنانية، إميل لحود، والمنظمات الدولية، إطلاق سراحهم، للتخلص من بطش العدو وعملائه الذين تآمروا على الوطن في مقابل رواتب تراوحت بين 400 و600 دولار للعميل الواحد.

وما أشبه مناشدة المعتقلين للمنظمات الدولية من أجل المساعدة في ذلك الوقت، بمطالبة المنظمات الدولية اليوم لمساعدة سكان قطاع غزة الذين يواجهون إبادة مستمرة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لتكون المنظمات نفسها عاجزة عن نجدة الشعوب وخاضعة أمام العدو الهمجي، الأمر الذي يضعها أمام ازدواجية المعايير بين ما تدعيه من دفاع عن حقوق الإنسان، والوقوف "متفرجة" أمام انتهاك صارخ لحقوق الإنسان.

سرد التفاصيل والأسماء والتواريخ جزء لا يتجزأ من التاريخ، بل في بعض الأحيان يشكل جوهر القصة. ليس الهدف هو النقل السردي الجاف أو الممل لوقائع التاريخ، بل جعل القصة الإنسانية بتفاصيلها محور تاريخ مُلهم، وقصة تُروى للأجيال المقبلة. فالإلهام عامل أساسي ومهم لمقاومة قوى الاستعمار والاستكبار، ومجموعة من حركات المقاومة ألهمتها الثورات السابقة في وجه الظلم والاستبداد. 

لاسم أول شهيد ارتقى في المعتقل معنى وقيمة. لمعاناة من قاوم الاحتلال وانتصر عليه قيمة. وفي أسماء الصهاينة وعملائهم دلالة وعبرة. ولحفر كل هذه التفاصيل في الأذهان دورٌ في جعل المقاومة أقوى وضمان استمرارها، فبالمعرفة تزداد القوة وبالقوة يتجدد الأمل، وبالأمل تقاوم الأرواح، وبالمقاومة وحدها تتحرر الأراضي المحتلة كما تحرر الجنوب اللبناني.

خلال فترة تحرير الجنوب وصولاً حتى الخامس والعشرين من أيار/مايو من عام 2000، استطاعت المقاومة الإسلامية جعل التحرير منعطفاً مفصلياً في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي، الذي فر هارباً تاركاً وراءه عملاءه، فكُسرت بذلك الصورة النمطية لـ"الجيش الذي لا يُقهر" ودحرته المقاومة من الجنوب يجر أذيال خيبته في إثر هزيمة نفسية مدوية قبل أن تكون عسكرية أو سياسية.

ما يميز تحرير الجنوب هو كونه أول أرض عربية تتحرر من براثن الاحتلال بالمواجهة والمقاومة المسلحة فقط، من دون أي مفاوضات أو تقديم تنازلات، بل كان السلاح سيد الموقف، وعاش الكيان الصهيوني إذلالاً غير مسبوق نتيجة مقاومة استمرت 18 عاماً تخللتها مهاجمة مواقع العدو، ونصب الكمائن، وزرع العبوات الناسفة، وتخطيط عمليات أمنية تستهدف شخصيات مهمة في صفوف جيش الاحتلال.

رسخت المقاومة صورة النصر فترةً طويلة، وتمكنت من تحول أمينها العام، السيد حسن نصر الله، إلى قائد وزعيم عربي مُلهم ومؤثر، واجه العدو علناً من دون أي مساومة، فعبارته الشهيرة: "مصيرك بيدك، أرضك تستطيع أن تستعيدها بإرادتك"، كانت واقعاً ترك أثراً بالغاُ في نفس الشعب اللبناني بصورة خاصة، وفي نفوس شعوب المنطقة بصورة عامة.

أرسى نصر 25 أيار/مايو معادلة جعلت لبنان طرفاً فاعلاً في الشرق الأوسط، وأصبحت عبارة "قوة لبنان في ضعفه" ضرباً من ضروب الماضي، لتحل مكانها قوة لبنان ومقاومته وقدرته على إلحاق الهزيمة بالعدو الذي يطمع بأراضيه.

محور المقاومة كان كعادته حاضراً وداعماً ومسانداً للمقاومة في لبنان، متمثلاً بالجمهورية الإسلامية في إيران وسوريا، اللتين وجه السيد حسن نصر الله إليهما برقيات تهنئة وشكر، مشاركاً إياهما في النصر الذي أكد أنهما تملكان فضلاً فيه.

دعمت إيران المقاومة وواجهت كل أشكال التهويل والتهديد والإغراء للتخلي عن حزب الله. أما سوريا، فحمت المقاومة الإسلامية واحتضنتها منذ الانطلاقة الأولى، فكان صباح تحرير الجنوب صادحاً في العاصمة دمشق.

استطاع حزب الله، بفضل مقاومة رجاله وصمود الشعب وصبره ودعم حلفائه، فَرْضَ الانسحاب على العدو الإسرائيلي في التوقيت الذي حدده وليس في الوقت الذي كان العدو الإسرائيلي ينوي فيه الانسحاب وتسليم مواقعه إلى "جيش لحد"، في شهر حزيران/يونيو من عام 2000، فسطر نصر الجنوب نصراً ليس محصوراً في طائفة أو حزب معين، بل هو انتصار مقاومة الوطن.

منذ 24 عاماً، حطم الأسرى أبواب زنازينهم في معتقل الخيام، صرخوا وبكوا وهللوا من هول اللحظة، ولا تزال أصواتهم في ذاك اليوم وتكبيراتهم أصداءً تتردد في الآذان. وحول المعتقل، وفي القرى التي تحررت تباعاً، رقص أهل الجنوب الذين عادوا أفواجاً إلى أرضهم، نثروا الأرز، رفعوا الأعلام اللبنانية والمقاومة. عاد المسنون إلى ديارهم، عانقوا بعضهم البعض علهم يصدقون الحلم الذين يعيشونه، فعانقهم الفرح. هي نهاية حكاية سعيدة، وبعض النهايات بداية لأشياء أخرى.

نطالع اليوم الصور والمشاهد، فيتجسد معنى الفرح أمام أعيننا، كان حقيقياً، صادقاً، يجعل القلوب مرتعشة ومتمنيةً لو حظيت بلحظات من يوم التحرير.

بفضل 1276 شهيداً للمقاومة الإسلامية، نحن اليوم الجيل الدي يحيا زمن الحرية، لا الاحتلال ولا الاعتقال ولا العمالة، بل نحيا بصفتنا الجيل الذي سيشهد تحرير سائر الأراضي المحتلة، وتحرير فلسطين على الدرب الذي تسلكه المقاومة، فالنصرُ ميزة عظيمة، كان للجنوب اللبناني الحصة الأكبر فيه.