هل حان زمن أفول الإردوغانية؟

لماذا يشعر الكثيرون بخيبة أمل من موقف إردوغان من العدوان على غزة؟ وهل ستدفع الأحداث إلى أفول نجم الرجل ومعه التوجّه الذي اختطّه في المنطقة والذي بلغ ذروة إشعاعه في العقد الماضي؟ 

  •  أفول الإردوغانية.
    أفول الإردوغانية.

في مطلع الألفين، إذا أردتَ أن تنال من أيّ إسلامي تنسبه إلى الإردوغانية، فيسارع إلى إنكار صلته بها وربما إلى التبرّؤ منها ومن الرئيس التركي، ذلك أن الصورة العالقة آنذاك في الأذهان هي صورة لقاء إردوغان مع شارون الجزّار الصهيوني سيّئ الذكر.

لكن كيف حدث هذا التحوّل الذي انتقل بالرجل من منبوذ في أوساط الإسلاميين إلى زعيم لهم؟ ولماذا يشعر الكثيرون بخيبة أمل من موقفه من العدوان الأخير؟ وهل ستدفع أحداث غزة إلى أفول نجم الرجل ومعه التوجّه الذي اختطّه في المنطقة والذي بلغ ذروة إشعاعه في العقد الماضي؟ 

لقد كانت العلاقة مع "إسرائيل" من الموبقات التي لا تغتفر، وهي كفيلة بإسقاط عدالة أي شخص تورّط فيها عند الجماهير العربية والإسلامية وعند الإسلاميين أكثر من غيرهم، فقد كان سقف الأمة عالياً بفعل المناخ السائد حينئذ المتأثّر بأحداث عظام، مثل انتفاضة الأقصى، والتي دفعت بتقدير وإكبار نماذج البطولة ومجّت في المقابل كل دعاة البراغماتية مهما اختلفت قناعاتهم، وهذا ما نفّرهم من النموذج الإردوغاني في ظل سطوة قامات كبار على مشهد الإسلاميين، إن على مستوى الفعل المقاوم أو على مستوى الفكر الإسلامي وفي مجال الدعوة، وقد زادت متاعب هذا التيار الوليد كون زعيمه شكّل تياراً منشّقاً في بلده الأمر الذي جعل الزعامات الحركية التقليدية تنظر إليه بعين الريبة والتشكّك، مما دفعها إلى حصار من يسعى للنسج على منواله من القيادات الشابة داخل الحركات الإسلامية.

لم يمضِ وقت طويل حتى انقلبت الصورة تماماً، فقد جرت مياه كثيرة في الأوضاع الدولية في مختلف النواحي ليكون النصيب الأكبر من التغيّرات في منطقتنا، حيث تزامن العدوان الأميركي عليها عسكرياً واحتلالها للعراق وأفغانستان وقمع الانتفاضة الفلسطينية مع اختراقها السياسي والثقافي، وهكذا بعد أن عملت أميركا على ترويض "المارد" الإسلامي بضرب المتمرّد بقسوة، فتحت نافذة لولوج "الإسلاميين المعتدلين". وأمام هذا المستجد أبدت مختلف الحركات الإخوانية (أو القريبة منها) قدراً من البراغماتية والمرونة من أجل تقديم أوراق اعتمادها عندها، أو على الأقل من أجل رفع الفيتو الغربي عليها، وهو ما انعكس على تعديل جوانب من سلوكها.

هناك دول منعت قواعدها من حرق الأعلام الأميركية في المظاهرات، وبدأت تتحاشى الهجوم السياسي على الأميركيين، كما سعت إلى التصالح مع القيم الغربية، وهنا تمّ التسويق لرجل تركيا القوي كعرّاب لهذا التوجّه الذي استثمر وقفته ضد شمعون بيريز وتلاسنه معه في مؤتمر دافوس 2009 من أجل تنظيف سيرته، وهو ما جعل الكثيرين يصفحون عن الرجل باعتبار أن جواز المرور إلى أفئدة الجماهير العربية والإسلامية كان ولا يزال هو القضية الفلسطينية.

إن أخطر ما جاءت به الإردوغانية هو اختزال المشاريع الإسلامية في بعد مادي متغيّر، والذي اصطدمت  به هي قبل غيرها في معقلها، فما كان يعتبر نقطة قوتها هو من قلب الرأي العام عليها في بلدها، فأضحت نجاحات إردوغان التدبيرية التي جلبت له الشعبية في الماضي هي من تسبّب له النقمة حالياً، مع تفاقم الأزمات الاقتصادية في بلاده حتى أنه "نفد بجلده" في الانتخابات الأخيرة بأعجوبة، وما عدّ ثورة على النمط التقليدي في القيادة من جيل شاب "منفتح" كان إردوغان أبرز ممثّليه تبخّر مع استنساخه للنموذج ذاته الذي رفضه زمن الزعامة الأربكانية بعد تضحيته برفاق الأمس ليصبح زعيماً أوحدَ لحزبه ولبلده، كما أن العنصرية التي يطفح بها الشارع التركي ضد العرب مؤخّراً دليل صارخ على الفراغ التربوي وعلى غياب تأطير المجتمع بغير قيم السوق الرخوة، حتى اشتهرت تركيا في عهده بتسويق الميوعة والابتذال لعموم المنطقة العربية والإسلامية بعد نحو عقدين من حكمه.   

هذا عند النموذج الأصلي أما التقليد فقد كان أكثر بشاعة، حيث تعرّى طيف من الإسلاميين العرب من مبادئهم ومن ترسانتهم الأخلاقية ثمن قبولهم في اللعبة السياسية استدراراً لعطف النظم الاستبدادية أو المعارضة من دون أن يحقّقوا تنمية أو ازدهاراً لأوطانهم، تاركين ثغورهم ومواقعهم للهجمة الاستهلاكية الإباحية الشرسة التي استسلم جلّهم لها. فقد أضحت أولوياتهم مقلوبة رأساً على عقب، حيث اعتقدوا أن حاجتهم لرجال الدولة مقدَّمة على حاجتهم لرجال الدعوة والتربية والصدح بالحق الذين لم يجلبوا لهم غير المتاعب، وقد أصبح لزاماً عليهم تجاوز أدبيات المحنة وخطاب الوعظ وصولاً إلى الطعن في إرثهم الكفاحي، كل هذا سيؤهّلهم للتصالح مع الواقع عوض التصادم معه، وقد يقطفون ثمرة هذا المسار الجديد مناصب ومسؤوليات أو على الأقل يتجنّبون به أذى الأنظمة السياسية. 

أدّى الرئيس التركي إذاً دوراً جوهرياً في مدّ الحبل للحركات الإسلامية من أجل إنزال قياداتها من شجرة مبادئهم، فقد دعاهم صراحة إلى القبول بالعلمانية في زيارته للقاهرة في 2011، وانتزع من التيار الأكثر صلابة في الموقف من الكيان الصهيوني قبوله بالتطبيع التركي وتبريره له بحماس غريب، الشيء الذي شكّل خرقاً غير مسبوق أفقده تماسكه وانسجامه، وهو ما شجّع النسخة المغربية للحزب التركي لالتماس مسوّغاته نفسها من أجل التوقيع على الاتفاق مع الصهاينة في كانون الأول/ديسمبر 2020، كما تمّ الترويج للنموذج الإردوغاني الذي صالح بين الخمارة والمسجد للتخفيف من الأعباء التي جعلت خصوم الإسلاميين يستهدفونهم، وقد راق الخط الإردوغاني للميولات الانتهازية عند كثير من قيادتهم فلا شيء ثابت سوى مصالحهم.

نشير هنا إلى أن هذه الاختراقات للتيار الإسلامي ما كان لها لتنفّذ لو لم يتمّ إضعافه دعوياً عبر تجار الدعوة "الدعاة الجدد"، الذين امتاز عرضهم بالسطحية والضحالة من دون عمق روحي أو تربوي، كذلك فتحت أشكال الربح الجديدة المعتمدة على شبكات اجتماعية المجال لاستغلال قواعد الإسلاميين الشعبية من طرف صنوف من المغامرين وبعضهم من مسؤوليهم، إضافة إلى برامج التنمية البشرية والبرمجة اللغوية التي تعاطاها شباب الإسلاميين أكثر من غيرهم والتي تناقض كلّ مسلّماتهم، كلّ هذا أفقد تلك الحركات جزءاً كبيراً من صلابتها، وجعل صفها الداخلي هشّاً يتداعى أمام جلّ المؤثّرات الخارجية.   

وتبقى عملية طوفان الأقصى المدوّية صفعة لهذا التيار بفضحها لزعيمه حيث لم تؤثّر كل مخرجاته ومناوراته الكلامية، التي جعلت منه في السابق بطلاً من دون معارك، في تبيان تخاذله فهو الذي يرفض اتخاذ قرارات كتلك التي فعلتها جنوب أفريقيا وبوليفيا وكولومبيا مكتفياً بالاستعراض الإعلامي كعادته، مظهراً بذلك الصورة التي رسّختها التجارب الماضية عنه باستغلاله للقضايا العربية والإسلامية وتحويله للإسلاميين إلى رهائن عنده، وإلى مجرد أوراق يقوّي بها موقعه التفاوضي مع الغرب حتى يديم مكوثه على رأس المشهد السياسي في بلده، كذلك الحال عند صغار الإردوغانيين في البلدان العربية الذين لم يرتقوا إلى سقف المعركة الملحمية في فلسطين حين ضبطوا حركيّة الشارع على إيقاعهم المتدنّي حرصاً على عدم نقمة حكّامهم عليهم.

في المقابل عكس طوفان الأقصى مسار الأحداث، وما الجاذبية التي أصبح يحظى بها رجال المقاومة عبر أيقونتهم "أبو عبيدة" عند الشباب العربي والإسلامي إلا تعبيراً عن تعطّشهم لمن يحيي فيهم معاني الفتوة والثبات التي عاشوها فيما مضى في مواجهتهم العزلاء لفساد أنظمتها واستبدادها قبل أن يتمّ وأدها في صفوفهم بغية ضبطهم وتوجيههم، كما أن المشاهد المكثّفة لصبر وتجلّد أهل القطاع الصامد في مواجهة العدوان عليهم تجعلهم مثالاً يأبى الانصياع لأيّ تسويات هجينة تضيّع حقوقهم، وهو ما يصحّح بوصلة الأمة ويحرج نخبها وتياراتها السائدة.   

 لم يعد لدى الإردوغانية ما تضيفه للمشهد السياسي بعد أن بلغت الطريق المسدود، وقد تأكّد كلّ من راهن على أساليب مخاتلتها وعلى "فهلوة" قادتها بأنها عاجزة عن تمثيل أي من القيم النبيلة لطبيعتها "الحربائية" المتلوّنة التي لا تصمد أمام الواقع، والتي لا تكفّ عن تقديم التنازلات حتى فقدت أصالتها، ذلك أن القضايا الجادة تحتاج من أجل الدفاع عنها إلى أرضية صلبة من المبادئ تستند عليها، وإلى الاعتقاد الحار بها حتى تتجسّد على الأرض، وهو ما أثبته رجال المقاومة في فلسطين الذين نأوا بأنفسهم عن تأثيراتها وتشبّثوا بنموذجهم الذي أعاد للقضية الفلسطينية توهّجها العالمي بعد مخطّطات دفنها.