نظرية النصر
في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، أثار الأمين العام لحزب الله مسألة مفهوم النصر بطريقة غير مباشرة، وذلك في محاولة لإماطة اللثام عن مفهوم النصر بحدّ ذاته، وما يترتب عليه من انعكاسات على الحرب الإسرائيلية الدائرة.
ثمة مؤشرات ميدانية ودولية توحي بأنّ "إسرائيل" تسعى إلى تحقيق "نصر استراتيجي" بعد عملية 7 أكتوبر، فتصريحات العدو الرسمية والمناورات العسكرية في قطاع غزّة والدعم الأميركي اللامتناهي بشقيه العسكري والدولي تشير إلى أن "إسرائيل" متجهة نحو تصعيد غير مسبوق على جبهات القتال بهدف تحقيق "نصر" واضح لا يكتنفه أي غموض، حتى لو وضع المنطقة على حافة حرب إقليمية.
وعلى الرغم من امتلاك كل من الولايات المتحدة الأميركية "وإسرائيل" القوة الصلدة الأكبر في المنطقة، بيد أن خياراً كهذا ستكون كلفته باهظة على كلا الحليفين.
الحروب الغابرة التي شنّتها "إسرائيل" على المقاومة الفلسطينية في غزة، كانت تحت سياق "معارك بين الحروب"، أو ما يعرف بـ"قص العشب" في أدبيات العدو، كان الهدف منها هو اغتيال القادة الفلسطينيين في الجناحين العسكري والسياسي وتدمير القدرات العسكرية لدى المقاومة تدريجياً، بيد أن هذه المعارك أدخلت "إسرائيل" في دوامة حروب صغيرة لا طائل منها.
فقد حافظت المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها على قدراتها العسكرية، لا بل تنامت بطريقة لم تتوقعها "إسرائيل"، فأتت عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023 انعكاساً لقدرات المقاومة الفلسطينية في غزة، والتي أعادت النظر في قوة "إسرائيل" ومستقبل وجودها في المنطقة العربية، خصوصاً مع تعاظم قدرات محور المقاومة.
في الآونة الأخيرة، بدأنا نسمع تحليلات لخبراء تحاول أن تضع معايير النصر في الحروب. لذلك، من الهام أن نعير اهتماماً لنظرية النصر في الحروب؛ لما لها من انعكاسات وتداعيات على الطرفين المتقاتلين، وخصوصاً على صانعي القرارات ذات الصلة.
تتسم الحرب بالديناميكية والتعقيد سواء أكانت حرباً تقليدية أم غير متناظرة. في الحروب التقليدية، يتجه المتحاربون التقليديون الذين يمثلون دولهم إلى إعلان أهداف محددة مسبقاً تنطبق عليها معايير النصر المعروفة عسكرياً وسياسياً، فإذا حقق أحد المتحاربين هذه الأهداف يعدّ منتصراً والآخر مهزوماً، على غرار ما حدث في حرب 1967، إذ تجسدت انتصارات "إسرائيل" الواضحة في الاستيلاء على أراض عربية، ونجحت أيضاً بمساعدة الولايات المتحدة في فرض اتفاقيات سلام أُخضعت فيها بعض الدول العربية التي كانت معنية بالصراع العربي-الإسرائيلي.
لكن، في مسألة الحروب غير المتناظرة، يختلف الأمر، إذ نادراً ما يصل الطرفان المتقاتلان إلى تحقيق نصر استراتيجي واضح بسبب غياب التماثل لدى أحد الطرفين المتحاربين. في هذه الحالة، يقاس النصر والهزيمة على قاعدة كسب النقاط، إلى حين يأتي تسديد اللكمة القاتلة في الزمان والمكان المناسبين.
في أعقاب عملية "طوفان الأقصى"، أثار الأمين العام لحزب الله مسألة مفهوم النصر بطريقة غير مباشرة، وذلك في محاولة لإماطة اللثام عن مفهوم النصر بحدّ ذاته، وما يترتب عليه من انعكاسات على الحرب الإسرائيلية الدائرة في غزة وجنوب لبنان. أشار الأمين العام لحزب الله يومذاك في خطاب متلفز أن المقاومة تنتصر بالنقاط.
إنّ قيادة المقاومة الإسلامية في لبنان تدرك جيداً أن توقيت الضربة القاضية لـ"إسرائيل" لم يحن بعد، فلا يزال محور المقاومة بحاجة إلى مزيد من الوقت لكي يراكم من قدراته العسكرية التي من شأنها أن تغيّر ميزان القوى لصالحه، والتي تحمل في طيّاتها النصر الإستراتيجي الذي يعبّد الطريق لتحولات بنيوية لمرحلة ما بعد الحرب.
النصر بين المفهومين الغربي والإسلامي
إنّ الهدف الأساسي من الحروب هو النصر، بيد أن الأخير يصطدم بتعقيدات وإشكاليات موضوعية يمكن أن تؤثر في مفهوم النصر بحدّ ذاته وكيفية قياسه.
يشير معظم الخبراء إلى أن جوهر النصر الحقيقي يهدف إلى إعادة هيكلة الدولة والمجتمع على المستوى العسكري والسياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمصلحة الدولة المنتصرة. وينسحب هذا الأمر أيضاً على الفاعلين من غير الدول بدءاً من حركات المقاومة وانتهاءً بالجماعات الإرهابية. بعبارة أخرى، إن النصر يشير إلى تحولات مجتمعية داخل الدولة المهزومة من جهة، وإلى النصر الحاسم من جهة أخرى، والمتمثل في الإنجاز العسكري الذي يعزز تحقيق الهدف السياسي للحرب.
وبالنسبة إلى الإستراتيجيين وبعض المنظرين السياسيين، تمثل نهاية الحرب العالمية الثانية مثالاً جلياً لـ "النصر الاستراتيجي" الذي أعاد تشكيل النظام العالمي من جديد، إذ ساهم النظام في صعود أقطاب جديدة مؤثرة في الأروقة الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
مما لا شك فيه أن مفهوم النصر معقد ومركب، كما أسلفنا سابقاً، بيد أنه يزداد تعقيداً وغموضاً في الحروب اللا متماثلة، على غرار ما يحدث الآن من عدوان إسرائيلي سافر على غزة وجنوب لبنان.
لذا، من الضروري أن يُنظر إلى مفهوم النصر في سياق أوسع، ومن الخطأ أن يعطى صبغة عسكرية محضة، بل يجب وضعه في إطار سياسي واجتماعي واقتصادي. فقد تحقق دولة ما أو حركة مقاومة نصراً عسكرياً، لكن إذا لم يتسن لهذا النصر أن يُترجم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً فقد يتحوّل إلى خسارة استراتيجية في المستقبل. من هنا، تكمن أهمية إدراك القادة العسكريين والسياسيين على حد سواء لمفهوم النصر.
يعرّف روبرت ماندل مفهوم النصر في كتابه "معنى النصر العسكري"، بأنه "إشارة إلى نقطة تحوّل ونهاية"، كذلك يتم الحكم عليه من خلال معايير سياسية وليس عسكرية صرفة. ويرى ماندل "أنه من دون فهم ما يعنيه النصر على وجه التحديد، فإن النتيجة يمكن أن تنطوي على شلل سياسي، وفقدان الدعم الشعبي، وتصاعد أعمال العنف بعد الحرب، وبالتالي فشل السياسة الخارجية".
يقترح بعض الخبراء قياس النصر على أساس عدد القتلى، والخسائر المادية، والأراضي، والاستيلاء على العواصم، وكسب القلوب والعقول، وتحقيق الأهداف المحددة مسبقاً، بيد أنّ هذه المعايير لم تعط جواباً إيجابياً للولايات المتحدة " وحليفتها "إسرائيل" عن من انتصر في حروبهما غير التقليدية في المنطقة.
يميّز الباحث في معهد "الأمن القومي" الإسرائيلي شموئيل هارلاب بين مظهرين من مظاهر النصر: شخصي وموضوعي. فالنصر الموضوعي هو حقيقة واقعية، يستمد مصداقيته من الميدان، ويخضع لحكم الواقع. في حين، أن النصر الذاتي هو أمر معرفي يخضع للحكم الفردي. ووفقاً لهارلاب، يتمظهر "التمييز بين النصر الذاتي والنصر الموضوعي في التمييز بين النصر بالضربة القاضية والنصر بالنقاط. \
في مباريات الملاكمة يكون الفوز بالنقاط أمراً ذاتياً، لأنه يخضع لقرار الحكم، إذ يمنح القاضي النقاط لكل ملاكم في نهاية كل جولة. وفي نهاية المباراة، يعلن الحكم الفائز بناءً على عدد النقاط التي حصل عليها كل جانب. وفي المقابل، فإن الفوز بالضربة القاضية لا يتطلب قرار الحكم، فالخصم المهزوم مُمدّد على الأرض، والحكم يعدّ إلى عشرة، وإذا لم يقف الملاكم على قدميه، تنتهي المباراة بالفوز بالضربة القاضية".
إن هذا المثال ينطبق إلى حدّ كبير على نتائج الحروب العدوانية -الإسرائيلية التي خيضت وتُخاض ضدّ المقاومة الإسلامية في لبنان والمقاومة الفلسطينية في غزة، فلا تزال حركات المقاومة في المنطقة تكسب الحرب بالنقاط.
"أعلم أن الحروب وأنواع المُقاتلة لم تزل واقعةً في الخليقة منذ بَرَأهَا الله."
من كتاب المقدمة لابن خلدون
في المقابل، يختلف مفهوم النصر في الأدبيات الإسلامية عن المفهوم الغربي، وهذا ما يصعّب مهمة تفكيك المفهوم بين جهتين مختلفتين من ناحية التعريفات والأيديولوجيا والثقافة. فمفهوم النصر، يختلف باختلاف الخلفيات الثقافية لدى الأمم والشعوب والجماعات. لذلك، من المنطقي القول، إن الذين يختلفون في المقدمات سيختلفون في النتائج.
وفي المفهوم الإسلامي، لا مكان للهزيمة، حتى لو نظر الغرب إلى القضية أنها كذلك، لأن جوهر النصر عند المسلمين هو أداء التكليف بمعزل عن النتائج، ولأن النصر يأتي من عند الله بعد أداء الواجب.
ويستند المسلمون عموماً إلى الآيات القرآنية في هذا الخصوص، لذلك كان يقول قائد الثورة الإسلامية في إيران الإمام الخميني: "نحن مأمورون بأداء التكليف، ولسنا مأمورين بتحقيق النتائج". كما يُجمع المسلمون على أنّ الانتصار يتحقق بمجرّد الصمود والوقوف على المبادئ والأهداف المعلنة والمشروعة حتى لو أفضى الأمر إلى إبادة.
لذلك، إن معيار النصر عند المسلمين هو المعيار الإلهي، والذي يعني الكثير أهمها العمل في سبيل الله بغض النظر عن حجم العمل ونوعه أو قيمته. بعبارة أخرى، إن المعيار الإلهي هو نواة النصر عند المسلمين. وهذا ما يعاكس الرؤى الغربية لمفهوم النصر لأنهم يعملون بالمعيار الوضعي. وعليه، إنّ الحركات الإسلامية المقاومة تقاوم العدو انطلاقاً من هذه المبادئ، التي تعدّ من المسلّمات لدى جميع المسلمين.
بيد أنّ هذا الاختلاف لم يمنع الحركات الإسلامية المقاومة من أن تعمل على تكييف النصر بالمفهومين الغربي والإسلامي في آن معاً. فلقد نجحت المقاومة في لبنان وغزة والعراق واليمن في تحقيق الأهداف المعلنة، التي بدورها تُعدّ فوزاً بالنقاط في المعيار الغربي.
ترتيباً على ذلك، يمكن الخلوص إلى أن نتنياهو يعدّ وقف الحرب في غزة وتبادل الأسرى انتصاراً للمقاومة الفلسطينية، وهو ما يعني أيضاً نهاية مشروعه السياسي بشكل نهائي. لذا، من المحتمل أن يسعى نتنياهو إلى تحقيق صورة نصر ذاتي لا تخضع للحقائق الموضوعية بل للحكم الشخصي، وتسوّقها بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية ومراكز الأبحاث ذات الصلة، بيد أن هذه الصور لن تعكس الحقائق الميدانية على الأرض.
ومما لا شك فيه أن التغطية الإعلامية ومراكز الأبحاث ووسائل التواصل الاجتماعي والخطابات السياسية لدى "إسرائيل" والمقاومة تؤثر في تصورات الإنسان على مدار الساعة. وبما أن الصراع المسلّح الحديث أصبح معركة سرديات بقدر ما أصبح صراعاً مسلحاً، فمن الواضح أن تصورات الحرب ستشكل النصر المتصور. وستكون لهذا الأخير آثار نفسية وفيزيولوجية على الطرفين المتحاربين، فالانتصارات والمكاسب تحظى بالإعجاب بشكل عام، لكن الهزائم والخسائر ليست كذلك.
لذا، لن تتأخر "إسرائيل" في إنتاج نصر شخصي تتبناه السلطة الحاكمة (كرفع علم إسرائيلي على مبنى أو في شارع، أو تصوير أسرى مقاومين تدّعي أنهم استسلموا في الميدان، أو الدخول إلى بعض أنفاق المقاومة كما حدث في الأيام الأخيرة). لكنّ هذا المشهد سيندثر بمجرّد تحقيق نصر موضوعي لا يحتاج إلى تفسير أو تسويق، بل يتصف بالتلقائية والمقبولية لدى الجميع.
إنّ محور المقاومة يدرس خطواته جيداً، وما زال يساند جبهة غزة بطريقة عقلانية من دون أن يلجأ إلى إعلان حرب مفتوحة. لكن، في الأيام القادمة، يمكن أن نشهد تصعيداً تدريجياً غير مسبوق يؤكد لـ "إسرائيل" أن حرباً إقليمية أصبحت وشيكة أكثر من أي وقت مضى، إذا لم تتوقف عن عدوانها في غزة.
في حالة المقاومة الفلسطينية في غزة والمقاومة الإسلامية في لبنان، يجدر النظر إلى الحرب الإسرائيلية الحالية في سياق أوسع من الحرب بذاتها وأهدافها، ومن المفيد أيضاً أن نتفحص ما إذا كانت الولايات المتحدة و"إسرائيل" تعدّان العدّة بجدية لمرحلة ما بعد الحرب، أي إنهاء الوجود السياسي والعسكري للمقاومة الفلسطينية في غزة، إذ لم يعد النصر من وجهة نظر العدو يعتمد فقط على القدرة على إحداث دمار هائل وانتهاج العقوبة الجماعية، بل على القدرة على انتزاع الدعم الشعبي من المقاومة.
ورغم أن هذا الأمر غير واقعي إلا إذا حصل تهجير قسري أو إبادة، أو إذا أعلنت المقاومة الفلسطينية استسلامها، وهذا لم ولن يحصل لأن الروح فيهم تقاتل.