من يحتاج الحرب الإقليمية؟
تشكّلت حالة السابع من أكتوبر وتعمّقت في أذهان المجتمع العربي والإسلامي والدولي، وانقسمت الآراء بناء على الطموح بالتحرير وأخرى بناء على الهدوء والسلام بمحدّدات المجتمع الدولي وتطبيق القوانين.
يكثر في هذه الأيام الحديث عن الحرب الإقليمية وتوسّع الصراع ودخول الجبهات بين تحذير وتوقّع وتمنٍّ واستراتيجيات، وهذه ناجمة عن مشهد رئيسي مهم وهو ما يحدث في فلسطين من تجاهل للحق الدولي بإقامة دولة مستقلة بحسب القوانين والشرعية، ما عزّز المقاومة الرافضة للترويض والتطبيع وأنشأ كذلك تحالفات باتت تسمّى "محور المقاومة" من وجهة نظر مؤسسيها، ويسمّيها الآخرون "محور الشر"، وتحالف "محور السلام" من وجهة نظر المنخرط فيه، ويسميها الآخرون "محور التطبيع والخنوع".
تشكّلت حالة السابع من أكتوبر وتعمّقت في أذهان المجتمع العربي والإسلامي والدولي، وانقسمت الآراء بناء على الطموح بالتحرير وأخرى بناء على الهدوء والسلام بمحدّدات المجتمع الدولي وتطبيق القوانين، وثالثة بضرورة إسكات محور المقاومة "الشر" بكلّ السبل.
كان للفئة الثالثة النصيب الأكبر في جعل الأمور تسير نحو توجّهها، فقصفت غزة وأريقت الدماء وبات العيش إهانة والحياة مقبرة، وانتقل ذلك للضفة وطمست معالم السلام أو حتى أفق الوجود، وتكشّفت خطط واخترع آخرون خططاً خيالية، واختلط الحابل بالنابل، وتعمّقت التحليلات، وتضاربت النقاشات، وتصادمت المصالح في الإقليم، واصطف كل محور بحسب الإمكانيات، فبات لدينا فلسطيني يقاوم ومعه كل الشارع في العالم وبعض الدول، وعلى الطرف الآخر "إسرائيل" وأميركا وماكينة الإعلام وأوروبا وعديد الدول، ما أعاد للفئة الثانية المطالِبَة بالحل السياسي الصدارة على حساب أميركا و"إسرائيل".
هنا وبعد تحرّكات الساسة وخطابات المقاومة والأحزاب والقادة، وبعد هذا وقبله وخلاله ما زال الدم يسيل بين مستشفيات القطاع، والمدني هدفاً للطائرات، والجندي الإسرائيلي يدفع فاتورة الغزو البري من دون سقف أو مدة أو إجابة على أسئلة تدور في عقله رغم عدم النطق بها.. ماذا بعد؟! ماذا بعد؟!
السؤال الذي بات على طاولة الشعوب والقادة والميدان، حيث أخذت "إسرائيل" الوقت الكثير من دون تحقيق نتائج، حصار مشدد على كل احتياجات للإنسان في غزة مستمر وخانق، وما زالت مدن "إسرائيل" تُقصف، والجنود في الميدان يخسرون، والساحة ليست ضمن مخطط المحاسب.
لذلك باتت الحرب الإقليمية حاجة أميركا و"إسرائيل" محسوبة ضمناً، وكذا هي رغبة الشعوب الباحثة عن انتقام للأطفال من دون حساب للأسباب والعواقب، لماذا؟:
1- "إسرائيل" وأميركا في ورطة أخلاقية وعسكرية وأمنية في مشهد الحرب الحالية، فلا حماس أبيدت ولا القصف على مدنها توقّف، ولا حاضنة شعبية انفجرت في وجه المقاومة بفعل سياسة التجويع والتدمير والحرق، وباتت حاملات الطائرات والجنود والدبابات في مواجهة شعب كفل له العالم حقوقاً ودولة وجب الحصول عليها، وهذه قمة الأزمة التي فيها وقع الحلفاء، والمخرج منها حرب إقليمية ليقال إن الحرب ضد محور "الشر" وليس قتلاً لطفل أو حرقاً لسيارة إسعاف.
2- الشارع الإسرائيلي بات ينفجر في وجه حكومته التي تتكشّف الأحداث تباعاً عن مسؤولية "جيشها" في قتل مسلحين ومستوطنين في الغلاف يوم 7 أكتوبر بالقصف، وكذلك استمرار وجود الأسرى في غزة تحت النار، وعدم وجود منطق للعملية بين التخلص من حماس وإعادة الأسرى، وكل ذلك يحدث في بركة دماء، فبات أمام الحكومة خيار التوقّف وهو انتصار للفلسطينيين، وخيار الهروب للحرب الإقليمية لاستمرار التبرير للفشل القائم، وأن "إسرائيل" تحارب "محور الشر" وليس شعباً يريد حقه.
3- ملف الثروات الطبيعية وتهديد غزة ولبنان لخريطة الغاز الجديدة، وربط الصورة بملف روسيا وإيران وحاجة أوروبا من الغاز، كلها محفّزات مهمة لتكون حرباً إقليمية وتصفية حسابات وإخراج المشهد عن سياقه.
4- الطريقة الأمثل لوقف الانتقاد الدولي والزحف البشري أن يصاغ إلى حرب إقليمية بحجة القضاء على "محور الشر"، حجة ستأخذ قبولًا لفترة معينة على الأقل ستمسح من الذاكرة أن جيوشاً تعمل ضد شعب بل هي حرب وميدان مستعر.
عرفنا من يحتاج الحرب بعمق واستراتيجية ودهاء ومن يريدها أمنيات، وهذا متفّهم جداً نظراً لقهر الشارع من الاستفراد بأطفال غزة وأهلها، ولكنْ بين استدعاء الحرب "هجوم" وفرض الحرب على جبهة أخرى "دفاع" فرقٌ في تصنيف الأميركي وحجته.
يحاول الإسرائيلي والأميركي استفزاز حزب الله بطريقة تجبره معنوياً على الهجوم من دون دراسة، والانخراط في حرب من دون دراية، وكل التصريحات تصف موقفه بالجبان وأنه مردوع وسيحرق لبنان، وهذا ما لم يتم من حزب الله وبات بحد ذاته استنزافاً لـ "إسرائيل".
الاحتلال حاول أن يستدرج حزب الله لبدء الحرب على "إسرائيل"، وبالتالي تصبح خطواته هو وأميركا منطقية ليس أمام الشارع الإسرائيلي وحسب وإنما في المنطقة وأمام العالم، ويصبح المخطط واقعاً أنهم يتصدّون لمحور الشر الهاجم على "إسرائيل".
لذلك كان الأمين العام لحزب الله في خطابه دقيقاً جداً، ووضع المحددات والخطوط الحمر، وسحب البساط من تحت المعادلات، وعزّز المحرّمات بمنع الحرب على لبنان، وهذه إشارة هامة لأنه الآن يستهدف جنوداً ومواقع عسكرية ما يجعل الاستنزاف كبيراً في جبهة الاحتلال التي إن ردّت على الضاحية بقصف ودماء فسيكون هذا مبالغ فيه ويطال مدنيين ويسمى حينها حرباً وجب الدفاع فيها عن لبنان، وهكذا تصبح "إسرائيل" في ورطة أنها تهجم على غزة ولبنان من دون مبرّر، وما يقوم به الحزب هو دفاع عن النفس، وبذلك تفسد خطط البوارج والطائرات والجنرالات.
محرّم آخر هو سقوط غزة، وبالتالي سيبقى الحزب مستهدفاً للجنود، وسيوسّع من عملياته بشكل متصاعد كبير لاحقاً ضد العسكريين.
في هذه الحالة لن تستطيع "إسرائيل" الصبر على هزيمة في غزة وشارع دولي ضدها، وغضب في الشارع العربي سيتولد ضد الأنظمة المساندة لها، وجبهة الضفة والقدس والداخل تغلي وستنفجر بصورة غير متوقّعة، ولذلك من الخيارات أن تذهب "إسرائيل" إلى مباغتة لبنان بحجة الرد على استفزازات حزب الله، وستكون أهدافها بيروت، وهناك الخطأ الجسيم الذي حاولت أن تجعل حزب الله يقوم به وعملت على استدراج كبير له من خلال تفعيل أصوات وتصريحات داخل لبنان ضد الحزب.
وكذلك استغلت "إسرائيل" عاطفة الشارع الذي يريد حرباً من دون معرفة الاستراتيجية، وهذا طبيعي في الفطرة خاصة أن الشارع يرى غزة وحيدة، وبالتالي يبحث عن أي تصعيد من دون الخوض في عمقه، وهذا من نجاح خطاب حزب الله أنه لم يتجاوب مع العاطفة بقدر ما تماشى مع الهدف والمصلحة وسحب هذه الفرصة من "إسرائيل" لأنه لو تحرّك عاطفياً لأُحرقت بيروت في حرب يشرعنها العالم أن "إسرائيل" تدافع عن نفسها، وهنا يلام ويدان حزب الله من داخل وخارج لبنان. أما حين يصدّ عدواناً عن بيروت يُثمَّن دوره ويقدّر من كل الأطراف، فهو يدافع ولم يجلب حرباً ضمن معادلة الاشتباك القائمة "عسكري لعسكري".
أمنيات الشعوب دوماً في حالة اليأس الباحث عن توسّع الألم وليس عن دقة الهدف، وهذا على مدار عقود تقع فيه الأمة. ولكن اليوم جاءت المقاومة في فلسطين ولبنان وأخواتها وغيّرت المعادلة، وبات الهدف والمضمون أهم من العاطفة، فمثلاً العام الماضي قيل لحماس "يا جبناء ها هم دنّسوا واقتحموا وسارت مسيرة الأعلام"، ولم تلتفت حماس للانتقاد، فكان بالفعل الاهتمام بالاستراتيجية وليس بالعاطفة، وهذا ما ظهر لاحقاً.
كذلك الإسرائيلي الباحث عن انتصار وما زال مفقوداً في غزة، فحتماً في عقيدة الوجود فإنّ الحرب الإقليمية مخرجه للنجاة، ولكن كلمة السر بين "حرب يشنّها فهو مهاجم" وبين "حرب يتعرّض لها وهو مدافع"، والفرق هنا كبير والنتيجة والمضمون والمسار ستكون سلباً على المبادر ولو امتلك كل النار.