ملامح الحرب العالمية الثالثة في حرب غزة

نحن اليوم أمام مجابهة عالمية، بين تحالفين: أميركي – غربي -صهيوني، ومعه أغلبية من الأنظمة العربية، وصيني - روسي مع محور المقاومة، وكلّ محور يريد لمشروعه أن ينجح.

  • عملية طوفان الأقصى.
    عملية طوفان الأقصى.

لا عجب في القول إن عملية "طوفان الأقصى" جاءت ضربة استباقية لحرب كان الكيان الصهيوني مُزمِعاً على شنّها على غزة.

وإذا كان "طوفان الأقصى"، وما نجم عنه من نتائج كارثية على الكيان المتعجرف، حجته لتدمير غزة مهما كلّفه الأمر من أثمان، فما ذلك إلّا حجة واهية تخفي وراءها أبعاداً أكبر، وتطعن عميقاً في مجريات الأمور في المنطقة.

من المؤكّد أن الاسرائيليين لم يتحمّلوا هزيمة بحجم "طوفان الأقصى"، فكان لا بدّ لهم من أن يردّوا، بأقصى وحشية، وفي ظهرهم مخازن السلاح الغربية، وخصوصاً ترسانة الولايات المتحدة الأميركية التي تَعُدّ الكيان الصهيوني جزءاً منها.

ما أوضحته الأحداث أن الغاية من تدمير غزة، وتهجير سكانها، هي إنشاء قناة مياه تبدأ من غزة، وتنتهي في إيلات على البحر الأحمر، كجزء من مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، في نسخته الغربية، والأكثر تحديداً، الأميركية، وتكون بديلاً من قناة السويس، أهم معبر تجاري مائي في العالم.

في الوقت عينه، كان من أهداف المشروع الصهيوني ضرب المقاومة الفلسطينية المسلحة، على ما كان عليه همّه التاريخي.

عناصر المشروع الشرق الأوسطي الجديد تتركز في المشروع الذي طرحه الرئيس الأميركي جو بايدن في قمة العشرين (G20) الأخيرة، والتي عُقدت في الهند، وهو خط تجاري - استراتيجي يبدأ بالهند، ويعبر شبه الجزيرة العربية، وأغلبيته في المملكة العربية السعودية، ومنها نحو الساحل الفلسطيني، بحيث بات مرفأ حيفا هو المرفأ الأول إقليمياً في إثر ضرب مرافئ المنطقة، وخصوصاً مرفأي بيروت واللاذقية.

لذلك، لم يكن الردّ الإسرائيلي على "حماس" عسكريّا كما تفترضه لعبة الحروب، بل بادر الاسرائيليون، في خطة مسبقة، إلى استهداف المدنيين بصورة مباشرة، وتهجيرهم عبر أبشع أنواع الهمجية، وطرح نقلهم إلى دول الجوار، وخصوصاً سيناء. ولأن المشروع الإسرائيلي واضح في أنه بديل من قناة السويس، عارضه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بحيث ستخسر مصر من هذا الاستبدال ما معدله خمسة عشر مليار دولار سنوياً، والقناة هي أهم وأكبر مصدر مالي للدولة المصرية، الواقعة تحت عجز مالي كبير.

بين معارضة مصر للمشروع، وصمود المقاومة البطولي في غزة، على رغم هول المأساة الإنسانية، أُحبِط المشروع الاسرائيلي، وتستمرّ الحرب على غزة مستمرة في أبعاد سياسية إسرائيلية، منها استكمال غسل وجهها بما هو أبشع من ضربة "الطوفان"، وتأجيل المحاكمة الداخلية في الكيان.

ولم تطل ضربة "الطوفان" مشروع القناة الصهيوني فحسب، بل استهدفت مشروع خط الهند - أوروبا عبر فلسطين المحتلة، وهو المشروع الذي جرى الإعداد له منذ عقود بدءاً بحروب العراق، وتدمير سوريا، ولبنان، ومحاصرة إيران، تمهيداً لبنائه بديلاً من هذه الدول، وقطعاً للطريق على خط الحرير الصيني.

كان مشروع خط الهند - فلسطين المحتلة - أوروبا حلم الكيان الصهيوني ليشكّل ركيزته، ويكون المركز الاقليمي البديل من عواصم الشرق الأوسط. وليس غريباً أن يتباهى رئيس الحكومة الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، بأن "تل أبيب" أصبحت المركز الاقليمي المالي الأول في إثر ضرب القطاع المصرفي اللبناني، وأن يصبح مرفأ حيفا هو المرفأ الاقليمي الأول، مع ثناء على جهوده تلك من أمراء الخليج، وتحديداً الإمارات وقطر.

في العشرين من أيلول\سبتمبر الماضي، قال رئيس الوزراء القطري الأسبق، حمد بن جاسم: "من الواضح أن ميناء حيفا سيكون هو المستفيد الأول من هذه الخطوط".

شكّل المشروع الهندو - أوسطي، إذا جاز التعبير، رأس حربة الهجوم الأميركي -الصهيوني على المنطقة من ضمن الاستراتيجية، التي بدأت الولايات المتحدة الأميركية بناءها لمواجهة صعود الصين، عندما لمست استحالة منع الصين من النمو، ومنافستها لها، اقتصادياً وتكنولوجياً.

منذ ما قبل ولاية باراك أوباما - الرئيس الأميركي الديمقراطي الأسبق - اتجهت الولايات المتحدة إلى مواجهة الصين، محاولةً كبح نموّها، وتصاعدها. ولم تكن روسيا استفاقت من كبوة انهيار دولتها العظمى الاتحاد السوفياتي. ركّزت الولايات المتحدة في مقارعة الصين على تحركات، ومبادرات عسكرية وجيوسياسية في بحر الصين، والمحيط الهادئ، وحشدت عدداً من الدول في تحالف لمواجهة الصين، وإرباكها لمنع تصاعدها، لكن الحرب السورية أيقظت روسيا التي بادرت إلى التدخل في سوريا، محبطةً المشروع الغربي.

ومع اندلاع الحب في أوكرانيا، اختلطت الأمور، وباتت القوة الاميركية موزعة على أوكرانيا والصين، ولتدخل في جبهة مواجهة جديدة مع "طوفان الأقصى".

وإذا كان مشروع خط الهند - أوروبا أُحبط، فما الذي سيكونه مصير خط الحرير الصيني؟ لا بد للصين، المتحالفة مع روسيا ومحور المقاومة، من استكمال مشروعها التاريخي الذي أعدّت له العدة منذ عقود إحياءً لأهم خط تجاري في التاريخ. وفي الصراع بين الخطين: الهندو - أوروبي، والصيني، مواجهة قاسية، تتراصف فيها دول العالم في تحالفات كبرى كالتحالفات التي شهدتها الحربان العالميتان الأولى والثانية.

نحن اليوم، بصورة واضحة، أمام مجابهة عالمية، بين تحالفين: أميركي – غربي -صهيوني، ومعه أغلبية من الأنظمة العربية، وصيني - روسي مع محور المقاومة، وكلّ محور يريد لمشروعه أن ينجح، الأمر الذي يضع المواجهة العسكرية في خط تصاعدي بين المحورين.

لذلك، تحتشد البوارج الحربية في المتوسط، وحجة حماية الكيان من المخاطر الوجودية هي من حجج الاحتشاد ومبرراته. وربما كانت المواجهة ستقع على مستوى دولي لولا لم تختصرها "ضربة الطوفان" بصورة مركّزة ومحكمة، أبقت وتيرة الصراع في سقف منخفض، على رغم ما سببه ذلك من ضربة قاصمة لظهر الكيان.

والمخاوف من الصدام الكبير مبرّرها عدّ قيادات الكيان أنهم يخوضون معركتهم الوجودية قبل حلول العقد الثامن، موعد السقوط اليهودي المنتظر، على غرار سقوطه في "الدولتين اليهوديتين" السابقتين، زمن الأشوريين وزمن الرومان. وما يؤكّد هذا الكلام اللجوء المتكرّر، غير المسبوق، لقيادات الكيان إلى التوراة، واستلهام تعاليمه الهمجيّة، وتردادها كما في سفر التثنية، وسفر إشعياء.

عملية "طوفان الأقصى" أنقذت "حماس" وغزة والمقاومة ككلّ من ضربة، لكنها حتى اللحظة، كضربة استباقية، أنقذت العالم من مجابهة عالمية كبيرة شبيهة بالحربين العالميتين الأولى والثانية، لكن بنتائج كارثية على البشرية، في ظل وجود عدد من الدول النووية المتجابهة في العالم.

ما يشغل البال أنه في حروب الغرب المصيرية لم يكن من مكان للشعوب، وهذا ما نراه في عدم اكتراث الكيان الصهيوني للاحتجاج على مجازر غزة. وما يُخشى منه أن يوصل المشروع الأميركي الصهيوني الصراع إلى نتيجة توراتية أخرى، قاعدتها "عليّ وعلى أعدائي يا ربّ".