مقاومة لا تخمد حتى إسقاط "إسرائيل"

محاولات نتنياهو تقويض زيارة غانتس إلى واشنطن، ورفض "الطابع الرسمي" لها، وتوجيه سفيره إلى الولايات المتحدة لتجنّب اجتماعات غانتس، تؤكد وجود حكومة في حالة من الفوضى.

  • حماس عادت إلى استعادة زمام المبادرة في شمال قطاع غزة.
    حماس عادت إلى استعادة زمام المبادرة في شمال قطاع غزة.

إنّ الحرب المستمرة في غزة، والتي امتدت لأكثر من 158 يوماً مع المهمة المعلنة المتمثّلة في القضاء على حماس، لم تفشل في تحقيق أهدافها الاستراتيجية فحسب، بل ألقت أيضاً بظلالها طويلة الأمد على الديناميكيات الداخلية للمجتمع الإسرائيلي ونظامه السياسي. وقد ظهر تأثير هذه الحرب من خلال زيادة الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي وحكومته، والفشل في إدارة الأزمة ليس في غزة بل في "إسرائيل" نفسها، وهذا ما يُنذر بمستقبل قاتم لـ "إسرائيل" قد ينتهي إلى سقوطها بشكل كامل.

يشير الانقسام داخل الحكومة الإسرائيلية، والذي تجسّد في الخلاف بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير حربه بيني غانتس، إلى أزمة أوسع في القيادة واتجاه السياسات. وإن محاولات نتنياهو تقويض زيارة غانتس إلى واشنطن، ورفض "الطابع الرسمي" لها، وتوجيه سفيره إلى الولايات المتحدة لتجنّب اجتماعات غانتس، تؤكد وجود حكومة في حالة من الفوضى. 

وهذا الصراع الداخلي لا يضعف موقف "إسرائيل" على الساحة الدولية فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى تأكّل ثقة الجمهور في قيادتها. ويعتبر الاستقبال الرسمي الذي حظي به غانتس في الولايات المتحدة صفعة قوية لنتنياهو ومقدّمة لإحداث شروخ داخل حكومته.

ويجب ألّا يتمّ خداعنا بتبادل الأدوار هذا بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"، فالقاعدة الأساسية التي تحكم هذه العلاقة هي أن الولايات المتحدة تتوافق تماماً مع الإجرام الذي تمارسه "إسرائيل" على مدار 75 عاماً، إلا أنها بدأت ترى في الحرب على غزة بقيادة نتنياهو المتهور وحلفائه المتطرفين مقدّمة لسقوط إسرائيلي حتمي، ولذلك ومن منطلق أنّ الولايات المتحدة تحمي "إسرائيل" حتى من نفسها، فهي بدأت تمهّد الطريق لإسقاط نتنياهو ومحاولة إنزال "إسرائيل" من على شجرة الحرب على غزة عبر المجيء بقيادة إسرائيلية جديدة.

ويمتدّ تأثير الحرب إلى ما هو أبعد من الساحة السياسية ليصل إلى النسيج المجتمعي في "إسرائيل". وقد أدّت إطالة أمد الصراع، إلى جانب عدم جدواه الواضح في تحقيق أهدافه المعلنة، إلى تفاقم الانقسامات المجتمعية. ويشهد الرأي العام الإسرائيلي استقطاباً متزايداً، مع تزايد خيبة الأمل إزاء أسلوب تعامل الحكومة مع الحرب وعواقبها خصوصاً في ملف المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس. 

وتشير المظاهرات الكبيرة والحاشدة التي تخرج ضد الحكومة الإسرائيلية إلى أن الحكومة غير معنية بإطلاق سراح المحتجزين، بل هي تحاول قتلهم والتخلّص منهم، سواء عبر الاستهداف المباشر أو عبر منع وصول المساعدات إلى المحاصرين في غزة، والذي سينعكس على المحتجزين الإسرائيليين الذين مات بعضهم بسبب نقص المواد الغذائية وفقدان المياه والدواء.

من جهة أخرى يأتي تأكيد أفيغدور ليبرمان أن حكومة نتنياهو وصلت إلى خط النهاية والدعوة التي وجّهها للعودة إلى الناخبين يعكسان أزمة شرعية مستمرة في "إسرائيل". ويرمز هذا الشعور إلى خيبة أمل واسعة النطاق بين الإسرائيليين، الذين يشهدون تأكّل الاقتصاد الإسرائيلي وزيادة عمق وتعميق الانقسامات السياسية الداخلية في "إسرائيل".

كما أدّت الحرب الطويلة إلى ظهور أزمة السلفيّين اليهود المعروفين بـ "الحريديم" حيث يرفض أكثر من مليون يهودي متديّن من طائفة الحريديم المتطرفة الانضمام إلى "الجيش" وهي أزمة كبيرة للغاية، إذ يبلغ عدد هؤلاء الذين أعفتهم الحكومة الإسرائيلية من التجنيد الإجباري أكثر من مليون شخص. 

وهم كذلك معفيون من دفع الضرائب. ويهدّد هؤلاء بأنه إذ تمّ إجبارهم على الانضمام إلى "الجيش" فسيسبّبون أزمة في "إسرائيل" عبر النزول إلى الشوراع وخلق الفوضى. كما هدّد الحاخام إسحاق يوسف بالهجرة الجماعية لطائفة الحريديم في حال إرغامهم على الخدمة العسكرية. وترفض الفئات الشعبية الإسرائيلية العادية مساعي حكومة نتنياهو لتمديد فترة الخدمة العسكرية لمجنّدي الاحتياط، لإنهم يرون بأنه يجب فرض الخدمة العسكرية على الحريديم بدلاً من إرسال أبنائهم إلى جبهات الموت في غزة.

إن إطالة أمد الحرب لم تؤثّر على الداخل الإسرائيلي بل عملت على إعادة تقوية حماس وحلفائها في محور المقاومة، حيث يبدو أنّ حماس عادت إلى استعادة زمام المبادرة في شمال قطاع غزة، كما ساهمت في تكبيد العدو خسائر متعددة وكبيرة في صفوف "الجيش" الإسرائيلي. 

إن هذه الانتصارات المتوالية لحماس في قطاع غزة منحها القدرة على الدعوة إلى انتفاضة غير مسبوقة في شهر رمضان في جميع أنحاء الأراضي المحتلة في فلسطين من الضفة الغربية إلى القدس المحتلة، هذا الأمر الذي سيحوّل شهر رمضان إلى كابوس لـ "إسرائيل". 

وبالنظر إلى محور المقاومة ككلّ يبدو أنّ التنسيق بين أعضاء هذا المحور في أعلى مستوياته، على عكس حلفاء "إسرائيل" المتشرذمين والمختلفين بين بعضهم البعض. أبرز مستويات التنسيق هي بين جبهة حزب الله وغزة وبين جبهة اليمن وحماس كذلك.

إن تأثير الحصار الذي فرضه أنصار الله في البحر الأحمر لا تقتصر آثاره على استهداف السفن الأميركية والبريطانية وإغراقها نصرة لغزة، بل تتعداها إلى تقويض القوة العسكرية الأميركية والبريطانية والإسرائيلية، فضلاً عن تأثيراته على الاقتصاد الإسرائيلي واقتصادات الدول الاستعمارية.

ففي البعد الاستراتيجي، يعدّ البحر الأحمر بمثابة ممرّ بحري بالغ الأهمية، حيث يربط البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس بالمحيط الهندي عبر مضيق باب المندب. فهو ممر حيوي لاقتصاد "إسرائيل" والولايات المتحدة وبريطانيا وخاصة بالنسبة لشحن النفط والسلع التجارية. وعليه فقد كبّد هذا الحصار خسائر اقتصادية كبيرة للغاية لهذه الدول الاستعماريّة.

كما تجب الإشارة إلى أن الولايات المتحدة وبريطانيا و"إسرائيل" تستخدم طريق البحر الأحمر لعمليات الانتشار البحري في الخليج وما وراءه. وقد أعاق هذا الحصار قدرتها على إبراز القوة العسكرية في الشرق الأوسط والمحيط الهندي، مما يؤدي إلى تعقيد الخدمات اللوجستية وزيادة التكاليف.

كما تعتمد هذه البلدان على التدفّق الحرّ للنفط عبر هذه المنطقة. وقد أدى هذا الحصار إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية، وارتفاع تأمين ناقلات النفط مما أثّر بشكل سلبي على اقتصاداتها وعملياتها العسكرية في جميع أنحاء العالم. وعلى الخصوص يرتبط اقتصاد "إسرائيل" وأمنها ارتباطاً وثيقاً باستقرار البحر الأحمر. 

ويعتبر ميناء إيلات الجنوبي نقطة دخول حاسمة للتجارة، وخاصة مع آسيا. وكان لهذا الحصار تأثير مباشر على التدفّقات التجارية وتدفّقات الطاقة والغاز الطبيعي، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وإجبار "إسرائيل" على البحث عن مصادر بديلة وأكثر تكلفة. كما عزل هذا الحصار "إسرائيل" استراتيجياً، مما حدّ من تحرّكاتها البحرية والعسكرية، خاصة فيما يتعلق بوضعها الردعي تجاه الخصوم الإقليميين.

كما أن الفشل في مواجهة الحصار بشكل فعّال أدى إلى تأكّل تصوّر قدرات الردع الأميركية والبريطانية والإسرائيلية مجتمعة، مما ساهم في تراجع النفوذ والقدرات العسكرية لها في المنتديات الدولية، وقد أصبح التهديد اليمني من أكثر التهديدات فعّالية ضد المصالح الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط.