معسكرات الداخل الإسرائيلي: إلى ما بعد التصادم
لن يتوقف الصراع بين المعسكرين على مركزية الخط السياسي في لعبة انتزاع مساحات الصلاحيات فحسب، بل سيتعداه أيضاً إلى تعميق الشرخ القائم في المجتمع الإسرائيلي.
خَرَجَ الحديث عن الصراع الداخلي في الكيان، وما يعنيه ذلك من الاستعداد لسيناريو الانهيار، من دائرة الفرضيات والتقديرات الإعلامية إلى واقع أكثر قُرباً، وإن لم يكن بالسياق الذي تهوّله الأطراف الداخلية خدمة لمصالحها السياسية، إلا أنَّ الأرضية المعقدة لتقاسم الصلاحيات بالتوليفة السياسيّة الحاليّة في "إسرائيل" قد لا تمكّنها من اختراق المخاطر كما سابقاتها.
بالسيناريو المتوقع، جاءت نقطة التصادم سريعة جداً حتى قبل إتمام الأسبوع الثالث من عمر الحكومة الجديدة. نتنياهو الذي يراوح بين فكّي القضاء يسعى لاسترضاء شريكه المقال آرييه درعي، فيما تتفاقم تعقيدات توزيع الصلاحيات في وزارة "الجيش" التي تسببت بصدامات بين 3 وزراء، هم بن غفير وسموترتش وغالانت، في مشهد يصفه الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان بـ"الزمن الأسود".
صراع المعسكرين
لم تكن الخيارات أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتسمح بأكثر من أن يرضخ لقرار المحكمة العليا الإسرائيلية، الذي قضى بإبطال تعيين الحاخام آرييه درعي، رئيس حزب "شاس"، من منصبه الوزاري المزدوج: الداخلية والصحة، بأغلبية 10 قضاة ومعارضة قاضٍ واحد، على خلفية إدانته بجنحة التهرب الضريبي والإخلال بنص الاتفاقية التي وقعها، والتي تعهد فيها عدم شغل أي منصب عام.
الوزير المقال درعي الذي خرج من الباب متعهداً اعتزال السياسة عام 2022، ليتجنب السجن الفعلي ويذهب إلى حكم بالسجن مع وقف التنفيذ ودفع غرامة مالية، دخل الحكومة الحالية من نافذتها هذه المرة بتعديل قانوني من قبل الائتلاف الحاكم سبق تأليف الحكومة، يسمح لمن فُرض عليه السجن مع وقف التنفيذ، وليس من فرض عليه السجن فعلياً، بتولي منصب وزاري، لكنه عاد واصطدم بجدار المحكمة العليا التي رفضت التعديل، ليجد نفسه خارج البيت الداخلي مجدداً.
ليس الأمر رضوخاً بمعنى الاستكانة، إنّما تقديم أولوية درء المخاطر على ما عداها، ولا يعني ذلك أن نتنياهو سوف يقامر بركائز تحالفه مع درعي ونوابه الـ11 في الكنيست، بل سيلجأ إلى طرق التفافية يضمن فيها عدم خروج الأخير من عباءة القرار السياسي، وهو الذي أعرب مؤسفاً عن أنه لن "يتغاضى عن رغبة الشعب" في توزير درعي صاحب الـ400 ألف صوت انتخابي، علماً أن هذا "الشعب" أيّد قرار المحكمة العليا بنسبة 63%، ومعارضة 27% فقط، في استطلاع لـ"القناة 12".
من المؤكد أنَّ سن قانون يسمح بالتغلّب على أحكام المحكمة العليا فرضية محالة، لكنَّ باباً خلفياً قد يمهّد لدخول درعي، ليس كرئيس وزراء بديل، كي لا يخسر عضويته في الكنيست، بل بمنحه رئاسة الكنيست، ما يسمح له بالعمل حتى تحت الإدانة.
حالياً، يناور الائتلاف بقيادة حزب "شاس" بين الصدام والقفز على القضاء، بمقترح لن يكون الأخير لشرعنة تعيين درعي وزيراً من دون تدخل أي جهات قضائية في الأمر، بحسب صحيفة "يديعوت أحرنوت". جديد القانون المقترح يسلب المحكمة العليا حق المراجعة القضائية لتعيينات الوزراء وهويتهم لأي سبب من الأسباب، باستثناء شروط الأهلية، ويعطي الحق حصراً للحكومة ضمن صلاحياتها وسلطتها.
لا يقرأ مشهد التنحّي الدراماتيكي لدرعي بتوظيف آنيّ، بل إنه يستبطن صراعاً بين معسكر السلطة التشريعية والتنفيذية أمام المعسكر القضائي، كشفه بدايةً إبطال تعيين درعي في سجال لن يكون الأخير، على أن الصراع على صلاحيات المحكمة العليا بين اليمين والعلمانيين يقودنا إلى الإشكالية المستمرة حول هوية المشروع الصهيوني، وإلى نزاع حول ماهية الديمقراطية التي يراها اليمين محكومة بالأغلبية، أي أنَّ طابع الدولة ومفهومها الديمقراطي رهن برؤية الأغلبية، وكلمة الحكومة هي العليا لا محكمتها.
بالتالي، كان لا بد من اصطدامٍ مع المحكمة العليا التي تمثل بوابة عبور القوانين إلى دائرة التنفيذ ضمن صلاحيات قانونية تجعل قراراتها حكماً إلزامياً على جميع السلطات. بمعنى آخر، تقوم المحكمة بعمل المكبح القضائي أمام تغوّل الأغلبية داخل الكنيست، وحارس النظام السياسي الإسرائيلي والاجتماعي في المجتمع اليهودي، بفعل دورها الرقابي القادر على إحداث التوازن بين مركبات المجتمع اليهودي المتناقضة لحماية هوية "إسرائيل"، بحسب ما نصت "وثيقة الاستقلال".
وبناء عليه، لن يتوقف الصراع بين المعسكرين على مركزية الخط السياسي في لعبة انتزاع مساحات الصلاحيات فحسب، بل سيتعداه أيضاً إلى تعميق الشرخ القائم في المجتمع الإسرائيلي، باعتبار أنَّ غالبية قضاة المحكمة العليا من اليهود الغربيين "الأشكناز" والعلمانيين أصحاب البشرة البيضاء المدعومين من البيت الأبيض، مع غياب شبه كامل للقضاة الشرقيين والمتدينين في داخلها، ومجدداً العودة إلى مربع النزاع حول حسم الطابع الهوياتي لـ"الدولة" بين التيار العلماني والتيار الديني؛ الأول الذي يسعى للحفاظ على ما بناه أسلافه المؤسسون، والآخر المستميت لتطبيق رؤيته المقدسة لقيام "دولة الهلاخاه".
هل ستنكفئ شهية اليمين هنا عند خط الاصطدام؟ مدفوعين بعقدة "المنفى"، يسعى هؤلاء لتجذير الحكم التلمودي بنشوة ذهبت إلى حد الإعلان عما اعتبره وزير العدل ياريف ليفين "الثورة الدستورية" التي ستبدأ مرحلتها الأولى "من الإصلاح القضائي الذي طال انتظاره".
هذا المسمى "الإصلاحي" يبطن في خلفيته إحداث شلل مركزيّ في نفوذ المحكمة العليا وتغيرات جذرية في نظام الحكم الإسرائيلي، إذ تقضي الخطة "الإصلاحية الشاملة"، بحسب روئية ليفين، بتقييد قدرة المحكمة العليا على إلغاء القوانين والقرارات الحكومية وتغيير عملية اختيار القضاة لمنح الحكومة الحالية سيطرة فعّالة على لجنة اختيار القضاة.
رداً على مخطَّط ليفين الذي وُصف بأنه خطة "هدم الديمقراطية والدولة"، يجيب نتنياهو في جلسته الأخيرة: "ما المشكلة؟ الحكومة ستعين القضاة. وبعد ذلك، سيكونون مستقلين". بعدها، سيباشر وزير الاتصالات في الكيان شلومو كارعي تنفيذ قرار إغلاق شبكة البث العام قناة "كان"، والسلطة الثانية، ومجلس الكابلات والأقمار الصناعية، ثم سيتدخل بقانون يحظر إدخال الخبز الفطير إلى المستشفيات في "عيد الفصح"، وقد يمهّد قانون آخر لإعفاء الحريديم من التجنيد، ثم سيسري تعديل بند الحفيد وتجميد الحياة يوم السبت، وقد يليه قانون الفصل بين الجنسين في المناسبات الدينية...
من شأن ذلك كله خلق مقاومة داخلية ضد قرارات الكابينت في "إسرائيل"، بل ما هو أخطر من ذلك، إذ سيؤدي إلى نشوء صراع آخر داخل البيت السياسي نفسه. وقد حذر الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي يوسي مليمان من خطر حرب أهلية قد تجد "إسرائيل" نفسها داخلها جراء الأزمة الدستورية التي تواجهها منذ مجيء حكومة بنيامين نتنياهو.
حرائق في البيت الداخلي
ولأنَّ نتنياهو أوَّل من سكب الوقود، فقد كان أوّل من سارع إلى سياسة "إطفاء الحرائق" متنقلاً بين حلفائه للحفاظ على بيته الأخير، وهو الذي يدرك جيداً أن إستراتيجية تقسيم الوزارات وخلط الصلاحيات ونسخ السلطات التي بنى عليها ائتلافه لن تمرّ من دون عواصف، وربّما انهيارات.
في طريقه لإخماد العاصفة الائتلافية بين الوزيرين يوآف غالانت وبتسلئيل سموتريتش، يبدو أنَّ نتنياهو ليس على عجلة من أمره لاتخاذ القرار وحسم صراع الصلاحيات بين الأخيرين، عقب أزمة إخلاء بؤرة "أور حاييم" الاستيطانية التي أقامها حفيد الحاخام دروكمان تخليداً لذكراه شمال الضفة من دون إذن من الجهاز الأمني، لكن بشرعنة زعماء الصهيونية الدينية سموترتش وبن غفير.
وعندما حاول سموتريتش تأجيل الإخلاء، اكتشف أن وزير "الجيش" يؤاف غالانت أمر بالفعل بإخلائها، فاعترض على ذلك بادعاء أنه المسؤول عن الاستيطان، وانضم إليه بن غفير بادعاء أن القوات التي أخلت المكان (حرس الحدود) يقع نطاق عملها ضمن صلاحيته.
مع ذلك، خَرَجَ نتنياهو من جلسة مناقشة الأزمة بين الوزيرين، بمشاركة 3 جنرالات من "الجيش" ووزير العدل في الحكومة، بـ"عدم اتخاذ قرار"، على الرغم من نشر قناة "كان" تسريبات تؤكّد أن نتنياهو لم يمنح دعماً كاملاً لسموترتش فحسب، بل ينوي أيضاً نقل الصلاحيات المدنية إليه كوزير في وزارة "الجيش" بموافقة غالانت أو معارضته، بحسب ما نص اتفاق الائتلاف.
بطبيعة الحال، إنَّ اعتراض غالانت في الجلسة، باعتبار أنه "لا يمكن أن يكون هناك قائدان للجيش"، لا يوازي بثقله السياسي صاحب أكبر تهديد سياسي ورئيس كتلة في الائتلاف، أي سموترتش، على عكس غالانت الذي يفتقر إلى قوة مستقلة.
والاستدراك هنا أنَّ الصراع الدائر بين غالانت وسموترتش ليس مجرد نزاع تقني على الصلاحيات. بالنسبة إلى سموتريتش، إنه المعركة الأخيرة لليمين لتغيير الواقع على الأرض باستخدام ورقة الاتفاق الائتلافي.
أما غالانت المقرّب إلى الحكومة الأميركية، فهو يسعى لتقديم نفسه شخصية مسؤولة ترى أن سلطة القوة وحدها هي التي تمكّنه من إطفاء حرائق الأمن التي قد تنتج من مخططات الاستيطان في الضفة، ويجب الحفاظ على التسلسل القيادي التقليدي المعتمد في الضفة، أي قائد المنطقة الوسطى، وإلى جانبه منسق العمليات، ورئيس الأركان، وفوقهم وزير "الجيش".
في هذا الوقت، لا تزال الصراعات الكامنة تسير على حافة دقيقة، ما دام نتنياهو يسارع إلى توليفها وإخمادها، وحتى تأجيلها، كرفض مقترح الوزير ميكي زوهار لإلغاء تمويل الفعاليات الثقافية يوم السبت، وتأخير مطلب الحريديم بالإعفاء الشامل من التجنيد في "الجيش"، لكن مسار التصادم يتعاظم، ويضيق على قرارات الحكومة، ويتسع حدّ التأزّم بتهديد يعلو على المخاطر الخارجية.