محور المقاومة وإشكاليات الأمن القومي الإسرائيلي
يجب الاعتراف بأن انتصارات محور المقاومة على "إسرائيل" في حروب لبنان وغزة وسوريا باتت تمثل تحدياً حقيقياً لقوتها الردعية.
من حيث المبدأ، الحروب تأتي استكمالاً للسياسة، لكن في "إسرائيل" تبقى الحروب على الإطلاق هي القاعدة، والسياسة هي الشاذة، إذ يبقى منبع التناقضات هو غربة "إسرائيل" الجوهرية والجذرية عن المحيط العربي الذي فُرضت عليه، فلا تستطيع أن تكون آمنة إلا بمراكمة وسائل القوة، الأمر الذي يعمق غربتها ويعزز استحالة قبولها. وهذا أمر غير قابل للديمومة، لا بمزيد من القوة ولا بمزيد من التحالفات (العلنية والسرية)، بما في ذلك توقيع اتفاقيات السلام العقيمة.
وأثبت مسار التفاوض العربي الإسرائيلي، منذ عام 1991 مروراً باتفاقيات طابا وأوسلو ووداي عربه، وصولاً إلى ما يسمى الاتفاقيات الإبراهيمية مع بعض دول الخليج عام 2020، عجزها الشامل عن ردع "إسرائيل"، بحيث لم تؤدِّ سياسة التكيف أو التحالفات الأمنية وتعظيم التعاون الاقتصادي إلى أي نتيجة تُذكَر على صعيد تغيير المواقف العدائية الإسرائيلية. بل على العكس من ذلك، زادت في حدة تصلبها وتعنتها، بحيث كانت "دولة" الاحتلال ولا تزال تعالج إشكالياتها الأمنية من خلال استراتيجية ترتكز على اللاءات المعهودة، والتي تعكس ثوابتها الأمنية، والتي من أهمها:
- لا للانسحاب الكامل إلى حدود عام 1967.
- لا لدولة فلسطينية ذات استقلال كامل.
- لا لإيقاف عمليات الاستيطان وتفكيك المستوطنات.
- لا لعودة اللاجئين الفلسطينيين.
- لا لامتلاك أي دولة عربية وإقليمية برنامجاً نووياً.
- لا لأي خلل في موازين القوى العسكرية.
بناءً على ذلك، لا يزال التفوق العسكري العنصر الرئيس الذي ترتكز عليه "دولة" الاحتلال من أجل المحافظة على وجودها، إذ يبقى تفردها في هذا المجال هو الدعامة الحقيقية لحمايتها، حتى في حالة تحقيق السّلام. فنظريّة الأمن القومي الإسرائيلي ستبقى على الدوام قائمة على مبدأ، مفاده أن كيان الاحتلال يقوم على مساحة محدودة جغرافياً.
وبالتالي، ما دام هنالك عطب في مستوى العمق الاستراتيجي لا بد من الاعتماد على قوّة ردع ضاربة، تحفظ لإسرائيل ديمومتها. لكن، نتيجة للانتصارات الاستراتيجية لمحور المقاومة في حرب تموز 2006، مروراً بحروب غزة (2008-2021) والحرب العالمية على سوريا (2011-2019)، بات هنالك استحقاقات تنطوي عليها تهديدات مستقبلية على مصير "دولة" الاحتلال الإسرائيلية.
وفي هذا الإطار، جاءت انتصارات المقاومة الفلسطينية في غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023 امتداداً لهذا النسق التصاعدي على صعيد إعادة التوازن والرعب الاستراتيجيين بين محور المقاومة و"دولة" الاحتلال، التي تلقت عدة هزائم قاسية أوصلتها إلى مرحلة العجز المطلق. وهذا الواقع الجديد لا ينفصل عن صيرورة الانتصارات منذ حرب تموز/يوليو 2006 وما تلاها، والتي نتج منها كثير من التطورات الجيوسياسية، والتي تتعلَّق بتعاظُم قوَّة محور المقاومة: ومنها:
- اكتساب تجربة قتالية غير تقليدية: بحيث أصبح هذا المحور قادراً مستقبلياً على خوض معارك متعددة المستويات تتطلب تنسيقاً لوجستياً ضخماً.
- تغير المفهوم العسكري القائم على الاستنزاف والدفاع، وإبداله باستراتيجية هجومية وقائية: وهو قائم على مبدأ التوغل إلى داخل الأراضي المحتلة، وشن غارات بآلاف الصواريخ، في اللحظة ذاتها، من عدة جبهات، وبالتالي تغيير معادلة الردع المتبادل مع "إسرائيل"، بصورة جذرية.
وهذا بالفعل ما تمت تجربته بصورة مصغّرة في أرض الواقع في حرب غزة عام 2021، بحيث استطاع محور المقاومة، عبر حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس، اعتماد هذه الاستراتيجية التي ثبتت نجاعتها، بحيث لم تستطع القدرات العسكرية الإسرائيلية مواجهة مئات الصواريخ التي تم إطلاقها من غزة، واعتراضها، في اللحظة ذاتها، ومن مواقع متعددة. وعليه، فإن هذه التحديات تطرح علامات استفهام حقيقية، تدور حول التساؤل التالي:
هل "دولة" الاحتلال الإسرائيلية قادرة على مواجهة كل تلك التحديات في أي حرب مستقبلية؟
من المنطقي القول إن طبيعة التحديات التي تواجهها "دولة" الاحتلال على مستوى بنية أمنها القومي ومفهومه تغيرت في صورة دراماتيكية، وعلى نحو جوهري. ومن تلك التحديات:
1- أصبحت لدى محور المقاومة قدرات تسليحية ضخمة تستطيع تغطية كل نطاق دولة "إسرائيل".
2- امتلاك الجيش السوري وحزب الله خبرة عسكرية هجومية نتيجة حرب العصابات ضدّ الحركات الإرهابية المدعومة من الغرب و"إسرائيل".
3- تطوير محور المقاومة استراتيجيته العسكرية القائمة على ضرب تفوق "إسرائيل"، جواً وبحراً.
وهنا يجب الاعتراف بأن انتصارات محور المقاومة على "إسرائيل" في حروب لبنان وغزة وسوريا باتت تمثل تحدياً حقيقياً لقوتها الردعية، وهي منعطف استراتيجي، ويزيد في تعقيدات عمل أجهزتها الاستخبارية، بحيث أصبحت تعاني فقدان أهمّ عناصر الرّدع لديها، وأن أي مواجهه عسكرية جديدة ستكون معقدة، وستصل إلى كل رقعة في "مساحة إسرائيل" نفسها.
فهي لم تكن في يوم من الأيام مُهدَّدة مثل شأنها اليوم، نتيجة التطور والنضج في تجارب محور المقاومة، الذي أثبت أنه بات يمتلك رؤية عسكرية وسياسية ذات نهج منطقي ونهج عقلاني على مستوى الفكر والممارسة. فحروب "إسرائيل" الخاسرة وعجزها عن تحقيق أي من أهدافها في سوريا أو غزة أو لبنان، دليل قاطع على تفوق محور المقاومة، في كل المستويات.
في هذا السياق، يمكن التأكيد أن الاحتمال المستقبلي الوارد هو حتماً خيار الحرب والمواجهة الشاملتين، واللتين لن تكونا كما كان يحدث سابقاً كحرب تقليدية في أرض عربية يحسمها التفوق العسكري الإسرائيلي، بل على العكس من ذلك، ستكون حرباً لا تملك دولة الاحتلال زمام المبادرة فيها، إذ ربما تستطيع "دولة" الاحتلال أن تبدأ تلك الحرب، لكن الأهم من ذلك كيف تديرها وتنهيها، إذ لن تكون بكل تأكيد قادرة على حسمها، وستصل تلك الحرب إلى كل شارع داخل إسرائيل نفسها.
مبدئياً، يمكن تأكيد قدرة محور المقاومة على شن هجوم شامل على "إسرائيل" (وليس فقط تبني سياسة دفاعية)، سواء عبر وابل من الطائرات المسيرة والصواريخ من جميع الجبهات (إيران، العراق، اليمن، لبنان، سوريا، غزة)، والذي سيكون مصحوباً بهجوم إلكتروني، بحيث تعجز منظومة الدفاع ("القبة الحديدية") عن التصدي بصورة كاملة لمثل ذلك النوع من الهجوم الواسع، والقادر على ضرب القواعد الجوية والبحرية ومراكز الجيش والبنية التحتية، وتعطيلها في كل "إسرائيل"، ناهيك بتزامن ذلك مع هجوم بري عبر كل الحدود داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
على سبيل المثال، ووفقاً للتقارير والدراسات الصادرة عن مراكز الأبحاث والمؤسسات العسكرية الإسرائيلية، فإن لدى حزب الله تحديداً قدرات عسكرية ضخمة، باتت تمكّنه من احتلال منطقة الجليل شمالي "إسرائيل"، وما إلى ذلك من عواقب وخيمة على الكيان الإسرائيلي. لذلك، إذا تمت مقاربة المعادلة، التي ترتبط بالقدرات الصاروخية للمقاومة، والتي تم تفعيلها في حرب تموز/يوليو 2006 (حيفا وما بعد حيفا)، وإذا تمت إضافة معادلة الطائرات المسيرة والإمكانات البحرية (كاريش وما بعد كاريش)، فإن من المنطقي أن تكون المقاربة المستقبلية المقبلة، وفقاً لمعادلة: الجليل وما بعد الجليل!