ماكرون بين سخرية طاولتين
المجتمع الفرنسي صار يعاني من وقع استمرار الاتحاد الأوروبي في حالة من التناقض بين دوله والتي صارت تبحث عن مزايا فردية بعيداً عن التوافقات السابقة.
تداولت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي فيديو للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إحدى الحصص التلفزيونية، حين فضحت الكاميرا حركته تحت الطاولة لنزع ساعته الثمينة لإخفائها بعد أن ظهرت على يده، فمن نبّهه لذلك؟ وهل ينال بالأساس قدراً كافياً من الملاحظات قبل لقاءاته الإعلامية؟ أم أنّ التطوّرات المتسارعة في فرنسا جاءت بما لا تحتمله ديمقراطياً لدرجة تصدّع تماسك مؤسساتها المنتخبة أمام تناقض المطالب الشعبية والبرامج الحكومية وما تقتضيه الصعوبات الاقتصادية.
والسؤال المهم هل فشل ماكرون في سياسته مثلما فشل في حركته بإخفاء ساعته، خاصة وأنه لم يعد يمتلك من الأوراق ما يمكّنه من احتواء الاحتقان الاجتماعي المستمرّ في فرنسا بسبب مقترح تدني مستويات المعيشة وتعديل قانون التقاعد؟
وبعيداً عن إخفائه لساعته الباهظة، هل سيتمكّن الرئيس الفرنسي من إخفاء نتائج سياسته الخارجية الفاشلة التي لا تقلّ فشلاً عن برامجه ومقترحاته الداخلية، التي يرفضها الشعب الفرنسي؟
كل هذه الملاحظات تعيد إلى الأذهان موضوع التلاعب بمستويات المعيشة في فرنسا التي كانت تقتات من أفريقيا لعقود، لكن مع تراجع النفوذ الفرنسي الفاسد في القارة السمراء سقطت شعارات الاستعلاء الحضاري وانكشفت عورة السياسة الانتهازية، وسط تصاعد وتيرة الاحتجاجات المطلبية بمظاهر عنف بين الشرطة والمتظاهرين في الشارع الفرنسي بشكل لم تشهده حتى الدول التي تطالها تقارير الغرب بدعاية حقوق الإنسان المفضوحة مؤخّراً.
ففي ظل تنامي العنف المتبادل بين الشرطة الفرنسية والمتظاهرين، أين هي ادعاءات الديمقراطية وغيرها من افتراءات الغرب؟ ولا سيما أن عدد المصوّتين لصالح مقترح ماكرون بخصوص قانون التعاقد المعدل لم يتعدَّ 9 أصوات، فهل هناك مبرّر لاستمرار حكومة الإليزيه؟ لتنذر هذه المعادلة عن تحوّلات كبيرة شبيهة بقيام جمهورية جديدة تراعى فيها الظروف الفرنسية المستجدة، بسبب تراجع مواردها الاقتصادية المرتبطة بالهيمنة الاستعمارية، إضافة إلى وقوفها على حقيقة ضعف مكانتها أمام الحلف الإنكلوسكسوني الذي عاقبها اقتصادياً في صفقات عسكرية ذات أبعاد اقتصادية.
واللافت للنظر أيضاً أن المجتمع الفرنسي صار يعاني من وقع استمرار الاتحاد الأوروبي في حالة من التناقض بين دوله والتي صارت تبحث عن مزايا فردية بعيداً عن التوافقات السابقة التي كانت تُفرض في اتفاقات شراكة الاتحاد مع غيره من الدول خاصة التي تقع جنوب المتوسط، لينقلب السحر على الساحر ولتشرب فرنسا من كأس خسارة مكاسب نقاط التفاوض التي كانت أقوى تحت مظلة الاتحاد الأوروبي المتراجع في دوره الاقتصادي على وقع تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، والخاسر في تحالفه مع الولايات المتحدة الأميركية ضد مصالح دوله.
وهنا تتبيّن معالم التوجّهات الفرنسية مستقبلاً فإما إعلان الإفلاس الاقتصادي لتبنّي إصلاحات جوهرية قد تصل إلى حد الانفصال العلني عن اتفاقات الاتحاد الأوروبي، أو الاستمرار في حالة التغييب الخارجي المفروض غربياً في ظل تنامي تعددية قطبية لن تُبقي على قواعد تقاسم الثروات لصالح القوى الغربية، لأنها لم تستجمع بعد قواها من وقع صدمة قرارات الرئيس الروسي بوتين الذي أراد وضع النقاط على الحروف لعالم سيمضي قدماً نحو تحوّلات أساسها تعدّد الأقطاب والتوازن في القوى وعدالة إلزامية في المعاملات الدولية.
وبالرجوع إلى موضوع الأوضاع الفرنسية وما تمرّ به من ظروف داخلية وخارجية يمكن تشبيه ذلك بتجارب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الطاولات السياسية وتبعاتها الإعلامية، التي سيسجّلها التاريخ الحديث في خانة أشد المواقف إحراجاً في ظل تراجع شعبيته داخلياً وضغوط العلاقات المتعثّرة خارجياً.
والبداية كانت من الطاولة الروسية التي وضعه بوتين على طرفها البعيد لتُفسّر المسافة بين الرئيسين حينها على أنها رسالة دبلوماسية فيها إذلال وتعبير عن اختلاف كبير في الموازين وتناقض واضح في المواقف، على قدر تباعد طرفي الطاولة. ليعود ماكرون مرة أخرى إلى الواجهة الإعلامية بالطاولة، لكن هذه المرة بموضوع نزع ساعته الثمينة تحتها. ليصبح بذلك ماكرون موضوعاً للسخرية العالمية، والسبب هو الطاولة السياسية نفسها لكن بين وقع الهزات الداخلية والصدمات الخارجية.