في الردّ الإيراني دلالات واستخلاصات لمرحلة تاريخية
لم تكن المسألة بالنسبة للإيرانيين عسكرية صرفاً تتعلق بإيقاع الخسائر وإصابة عشرات الأهداف الاستراتيجية، بل كانت مسألة سياسية تماماً بوسيلة عسكرية محدودة ومتوازنة لفرض واقع ميزان قوى جديد، وسياسة ردع جديدة، وإعلان إيراني جديد.
لندع جانباً المظهر الأبرز لظاهرة الكسل الدماغي المتمثّل باعتبار الردّ الإيراني على العدو الصهيوني مجرد (مسرحية)، فهذا النمط من السذاجة البائسة يحتاج لمقالة منفردة.
أما العداء الطائفي لإيران والذي يغزو شبكات التواصل والفكر اليومي، وكذلك الموقف المعادي للمقاومة في صحافة الأنظمة المتصهينة وإعلامها، فهذا شيء آخر تماماً، فهذا من نمط الموقف السياسي والعقائدي المعادي للمقاومة ومحورها تحت يافطات مختلفة، دينية وغيرها، موقف يتمترس في خندق الكيان والإمبرياليات الغربية ذاته.
ولكن المهم والذي طغى كحدث ذي طابع تاريخي، أن الصهاينة بلعوا الضربة ولم يتجرّأوا على الردّ المباشر، من دون إسقاط احتمالية الرد المستقبلي من الحسابات، فالضربة موجعة لسياسييهم وجنرالاتهم، وليس من السهل بلعها، بالضبط كما لم يكن من السهل بلع اقتحام 7 أكتوبر وكل الصمود البطولي ما بعد ذلك في قطاع غزة.
هل هذا البلع تمّ بضغط الإمبرياليين الغربيين الذين لا يحتاجون لمنطقة متفجّرة جديدة يغرقون في وحلها، وهم الخبراء في الغرق في وحول العديد من الدول كمستعمِرين، أم هو نتاج حسابات عسكرية صهيونية سلّمت بحقيقة انهيار كذبة (الجيش الذي لا يقهر)، حقيقة استدعت تدخّل 3 دول (أميركا وفرنسا وبريطانيا)، تجنّدت وسخّرت قواعدها وترسانتها العسكرية لإسناد التصدّي الصهيوني للرد الإيراني؟ أم هما السببان معاً؟ هذا ما نرجّحه.
بكلّ الأحوال نحن أمام متغيّر تاريخي ينبغي الوقوف عنده ملياً والتمعّن في دلالاته.
أولاً: وكما أعلنت القيادة الإيرانية فقد انتهى عصر (الصبر الاستراتيجي)، والذي ميّز التعامل الإيراني لسنوات مع فلتان العدوانية الصهيونية في المنطقة، ضد الداخل الإيراني والسوري والعراقي، صبرٌ وإن كان له مبرّراته السياسية الاستراتيجية في حسابات السياسة الإيرانية، إلا أنه أيضاً كان يستدعي الدعوة، ومن على قاعدة الانتماء لمحور المقاومة، وإيران في صلبه، للخروج من حسابات الصبر والرد بقوة على الصلف الصهيوني.
ما تأكّد في الرد الإيراني هو أن إيران اليوم ليست إيران العقود الماضية، خاصة لجهة ردّها مباشرة وبالقوة الصاروخية وانطلاقاً من أراضيها. كما أن العدو الصهيوني، وكما تأكّد في 7 أكتوبر وحتى اليوم، ليس مثله في العقود السابقة، عندما عاش على (حقيقة) أنه لا يُمس ولا يُهزم، فغدت تلك (الحقيقة) قاعدة لوعي مسلوب، منصهر، ثقافة دونية، تستجلب الهزيمة. الكيان اليوم يرتدع من إيران، وإن قام بالرد على الرد، وهذا متوقّع، فالوعد الإيراني بضربة أكثر قوة.
أما في لبنان فهو يراوح عند تهديداته من دون أن يتمكّن من حسم القتال لصالحه، بل تحوّل شمال فلسطين إلى منطقة عازلة فارغة من المستوطنين، بدل من أن يكون جنوب لبنان منطقة عازلة فارغة من مقاتلي حزب الله، كما يتمنّى ويطالب. أما في غزة فالوحل يصل إلى رقبة السياسيين والجنرالات وباعترافهم.
الكيان اليوم ليس كالأمس وهذا أسس ويؤسس، منذ 7 أكتوبر، لوعي بديل قوامه بسيط جداً: هذا كيان يمكن هزيمته، بداية نهاية الكيان بدأت، وفلسطين يمكن تحريرها. تلك مرحلة تاريخية.
ثانياً: أن تستنفر الإمبرياليات الثلاث، أميركا وبريطانيا وفرنسا، للدفاع عن الكيان أمام صواريخ ومسيّرات إيران، فهذا يؤكد حقيقة أن الكيان لا يمكنه أن يحمي نفسه بنفسه نهائياً، بالضبط كما جرى ويجري في قطاع غزة منذ 8 أكتوبر عندما تجنّد حلف الأطلسي بقضّه وقضيضه دعماً للكيان، بالخبراء والأسلحة والذخائر، حتى بات مسلّماً به أن وقف الدعم الأميركي يعني وقف "جيش" الكيان عن عدوانه وبالتالي هزيمته المعلنة. إنه كيان بلا سيادة تماماً، غير (سيادة) الإبادة والتجويع لشعبنا.
بعد أن كان كياناً وصفه الرفيق الراحل د. حبش مرة (بالإمبريالية الصغرى) نظراً لدوره العدواني في المنطقة، غدا كياناً هشاً لا يقوى على تحمّل ضربة محدودة ومتوازنة، وتقتصر على قدرات عسكرية بسيطة، كما أعلن الإيرانيون. كيان لا يستطيع أن يحمي نفسه، سيتحوّل عاجلاً أم آجلاً إلى عبءٍ على داعميه، لا إلى ذراع ضارب في المنطقة. كل هذا سيعيد الحسابات في المنطقة تماماً، فبعدما كان الكيان قوة إقليمية محسوب حسابها عسكرياً، ظهرت هشاشة قوته أمام القوة الجديدة التي تعلن عن نفسها في الميدان كقوة ينبغي حساب حسابها في السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط، ونعني إيران تحديداً.
صحيح أن الجمهورية الإسلامية، وعبر دورها في محور المقاومة، وإسنادها له بالمال والسلاح والتدريب والخبرات، تحوّلت رويداً رويداً إلى قوة إقليمية، ولكن الضربة الأخيرة التي استدعت أربع دول ذات أنياب عسكرية طويلة للتصدّي لها، أكدت موقع إيران كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها.
ثالثاً: أسهب الصهاينة في تثمين التحالف الناشئ في المنطقة في التصدّي (للخطر الإيراني)، والذي ظهر بصورة الإسناد في التصدّي للمسيّرات والصواريخ الإيرانية. بداية ليس من جديد في هذا، فدائماً هذا التحالف قائم، وهو قائم في حرب الإبادة على قطاع غزة. تحالف لا يشمل فقط الصهاينة والإمبرياليين، بل والأنظمة العربية المتصهينة والتابعة والتي تعجّ أراضيها بالقواعد التي تُسخّر قدراتها للدفاع عن الكيان عند كل خطر.
إنه المعسكر القديم/ الجديد، والذي تحدّد في الفكر السياسي الثوري، وتحديداً لدى الجبهة الشعبية كمثال، باسم معسكر الأعداء المتمثّل بالإمبريالية والصهيونية وكيانها والرجعية العربية. لم يتغيّر شيء، بل تأكد هذا التحالف بشكل صريح، خاصة من أنظمة عربية تربطها بالكيان علاقات عسكرية واستخبارية وتجارية، والأخيرة تشهد عليها شحنات الخضار العربية والتركية الداعمة للكيان للتخفيف من أزمته الزراعية نتاج تهجير مستوطنيه من غلاف غزة وشمال فلسطين.
وعلى المقلب الآخر فالتحالف المضاد قائم وتعزّز وتأكّد بالضربة الإيرانية. إيران والعراق واليمن ولبنان وفلسطين، محور المقاومة الذي ينسّق ويوحّد خطواته في مواجهة معسكر الأعداء.
إنها اللوحة التي بدأت تشكّل وعياً مقاوماً، وثقافة بديلة للانهزام، هذا الوعي يرى كلّ اتجاهات المقاومة باختلاف تلاوينها، الإسلامية المقاومة واليسارية والقومية، تتحد لإلحاق الهزيمة بالمستعمِر وصنّاعه. هذا المحور لا يلتفت للنزعة الطائفية العنصرية المموّلة استخبارياً من جهات معادية، ويروّج لها من على صفحات صفراء خليجية أو مدعومة خليجياً، والتي تسعى للإيقاع بين أطراف المحور بالاستناد لخلفيات طائفية مذهبية.
رابعاً: نجحت إيران، كقوة عسكرية إقليمية، سيحسب حسابها جدياً في مقبل المرحلة، في تحديد مديات الضربة، عندما اختارت أولاً أن تكون الضربة من داخل إيران لا من (وكلائها) كما روّجت الإمبريالية للطعن في الجدية الإيرانية، وكذلك للطعن في علاقات أطراف محور المقاومة، وثانياً بإعلانها أن الضربة ستكون متوازنة مع الضربة الصهيونية للقنصلية ومحدودة، بمعنى أنها لا تستهدف إعلان حرب مفتوحة، لاعتبارات عسكرية واستراتيجية تتعلق بالقيادة الإيرانية.
نجحت في إثبات قدرتها على جعل الضربة تحقّق مديات الضربة، خاصة أنها لم تستهدف تجمّعات المدنيين، بل أطلقت عشرات المسيّرات والصواريخ لإرباك عمل الرادارات والقبة الحديدية، بغية الوصول إلى هدف محدّد وهو القاعدتين العسكريتين في جنوب فلسطين.
لم تكن المسألة بالنسبة للإيرانيين عسكرية صرفاً تتعلق بإيقاع الخسائر وإصابة عشرات الأهداف الاستراتيجية، بل كانت مسألة سياسية تماماً بوسيلة عسكرية محدودة ومتوازنة لفرض واقع ميزان قوى جديد، وسياسة ردع جديدة، وإعلان إيراني جديد: لن نسكت بعد اليوم على الفلتان الصهيوني. وهذا ما تحقّق، وهذا ما يفسّر الإعلان الإيراني على لسان أكثر من مسؤول أن إيران لم تستخدم قدرات أكبر بكثير مما استخدمت، فالهدف سياسي استراتيجي بوسائل عسكرية محدودة، وليس عسكرياً صرفاً يهدف لدخول حرب مفتوحة.
هذا السلوك يعني ببساطة أن إيران ستتمكّن من الآن فصاعداً من رسم مسار المواجهة مع المستعمِر الصهيوني في المنطقة، وفق حسابات القيادة الإيرانية ومحور المقاومة، وما على الصهاينة إلا العض على الأصابع، ومناشدة حلف الأطلسي لينقذهم. إنها معادلة ردع وميزان قوى جديدان تماماً، لذلك صح القول إنها مرحلة تاريخية جديدة.