عام على الاتفاق السعودي - الإيراني.. النتائج والمستقبل
السعودية وإيران باتت لديهما نظرة واحدة بشأن عدة ملفات في المنطقة، ويتجلى هذا الأمر بالعدوان على قطاع غزة، إذ إن الجانبين لديهما المقاربة نفسها وهي نهاية الحرب فوراً.
عام مر على الاتفاق الذي يمكن وصفه بالتاريخي بين السعودية وإيران، برعاية صينية. اتفاق فاجأ الجميع لأنه جاء في وقت كانت المنطقة متوترة جداً ولم تكن هناك أي بوادر للتوافق أو حتى للحلحلة، فشكّل هذا الاتفاق صدمة إيجابية، وفتح معه آفاقاً كبيرة تعطي الأمل في حل الخلافات بين الدول، وخصوصاً أنه جاء بين أهم معسكرين في الشرق الأوسط.
الآمال كانت كبيرة على هذا الاتفاق، وربما كنت من أوائل من كتب عنه وعن أهميته، لكن السؤال الذي طُرح وقتها، هو: هل نتائج الاتفاق ستخرج سريعاً؟ وما نتائج الاتفاق أساساً؟ وهل هو مهم للوقت الحالي فقط، أم يُعَدّ سياسة استراتيجية بعيدة الأمد بين الطرفين؟
هذه الأسئلة جميعها مشروعة وأساسية، فكان من المهم قراءة الأسابيع القليلة بعد الاتفاق، والتي شهدت تسارعاً كبيراً في الاتصالات واللقاءات بين المسؤولين الإيرانيين والسعوديين، فذلك يؤكد أن المفاوضات بين الجانبين كانت قديمة وقديمة جداً، وأن ما حدث في بكين هو الإعلان فقط.
الاتفاق حتى الآن أكثر من جيد ويصل إلى درجة الممتاز لأنه عمل أولاً على تخفيف حدة التوتر الثنائي بين البلدين، حتى وصلنا إلى مرحلة باتت فيها السعودية تؤدي دور الوسيط في عدة ملفات في المنطقة، وبدأنا نشهد نوعاً من البراغماتية وإدارة الملفات الخلافية بين الجانبين.
ومنذ توقيع الاتفاق هدأت جبهة السعودية الجنوبية، وكان اليمن أكثر انفتاحاً على التفاوض مع المملكة، حتى إن صنعاء لم تحرج الرياض عند وقوفها إلى جانب قطاع غزة في الحرب الحالية، إذ إنها تستهدف السفن التابعة لكيان الاحتلال والسفن الأميركية والبريطانية في مياهها الإقليمية أو المياه الدولية، ولم تقترب من أي هدف أميركي، سواء ضمن المياه الإقليمية السعودية أو ضمن أراضي المملكة، وهذا الأمر يُحسب أيضاً للاتفاق بين طهران والرياض وكيفية إدارة ملفات المنطقة، بحيث إن طهران تُعَدّ قريبة جدا من صنعاء وباتت الآن قريبة من الرياض، وبالتالي استطاعت أن تجد مجالا للدبلوماسية بين الجانبين.
السعودية وإيران باتت لديهما نظرة واحدة بشأن عدة ملفات في المنطقة، ويتجلى هذا الأمر بالعدوان على قطاع غزة، إذ إن الجانبين لديهما المقاربة نفسها وهي نهاية الحرب فوراً.
والعدوان هذا كان سبباً في مجموعة من اللقاءات الثنائية بين الجانبين وتوحيد الرؤية لحاضر المنطقة ومستقبلها. فبعد أربعة أيام من الحرب، وتحديداً في الـ11 من تشرين الأول/أكتوبر، أجرى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أول محادثة هاتفية بينهما، إذ أكدا ضرورة إنهاء جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني، والوحدة الإسلامية، ودعم الولايات المتحدة لكيان الاحتلال.
وبعد هذا الاتصال أُجريت أول زيارة لرئيس إيراني للسعودية منذ عام 2012، إذ حضر رئيسي القمة الطارئة المشتركة بين جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، والمتعلقة بغزة، والتي أُجريت في الرياض في الـ11 من تشرين الثاني/نوفمبر، وبعدها توالت المحادثات بين الجانبين لترتيب ما يمكن تسميته البيت الإسلامي في المنطقة، أو ترتيب شؤون الشرق الأوسط خلال هذه الحرب.
رؤية السعودية تجاه إيران يمكن معرفتها بتصريحات السفير السعودي في طهران عبد الله بن سعود العنزي، الذي أكد أن ''هناك إرادة صادقة لتعزيز العلاقات بين البلدين، وأن تحقیق هذه القضية يصب في المصالح المشتركة حفاظاً على استقرار المنطقة''، مؤكداً أن ''الابتعاد عن الحوار المتبادل سيبعد البلدين بعضهما عن الآخر''.
هذه التصريحات تدفعنا لنفهم وجهة النظر السعودية لإيران وكيف تراها في الحاضر والمستقبل. ومن نتائج الانفتاح السعودي الإيراني كانت مناقشة مسؤولي دفاع الجانبين التعاون العسكري بينهما، وكان هذا بعد اتصال أُجري بين وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان، ورئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية محمد باقري، إذ أكد المسؤول السعودي أنه يرحب بزيادة مستوى التعاون بين قوات البلدين المسلحة.
والاتفاق السعودي الإيراني كان بوابة لعودة عدد من الدول العربية إلى طهران أو الانفتاح عليها، مثل الكويت والأردن ومصر، وأخيراً السودان.
أقل الجوانب المستفيدة من هذه العلاقات هو الجانب الاقتصادي، لأنه حتى الآن لم نلمس أي خرق حقيقي، وهو ما يُظهره تصريح لجنة تنمية التجارة الإيرانية، التي أكدت أن المملكة لم تصدّر أي بضاعة إلى إيران منذ بداية العام، لكن هذا الأمر يمكن تفسيره ربطاً بعدة أمور، أبرزها العقوبات الأميركية على طهران، وهو أمر يكبل الرياض تكبيلاً كبيراً، وخصوصاً أنها حليفة مهمة لواشنطن، وبالتالي التجارة مع إيران ببعض المجالات قد تعرضها لعقوبات أميركية، لكن من الضروري أن تجري المملكة خرقاً اقتصادياً بين البلدين، فالسعودية التي وقفت في وجه الولايات المتحدة في "أوبك" و"أوبك بلاس"، وكانت إلى جانب روسيا في مجال النفط، وأجرت معها عدداً من الاتفاقيات الاقتصادية، وكانت أيضاً إلى جانب الصين في التجارة، وبالتالي لديها القدرة على الوقوف في وجه واشنطن مرة جديدة وتوقيع اتفاقيات اقتصادية مع طهران، لكن هذا الأمر يحتاج إلى بعض الوقت لأن عجلة الاقتصاد تحتاج إلى فترة ليست بالوجيزة لتدور بين البلدين، وخصوصاً بعد كل الخلافات السابقة بينهما.
وبالتالي، أنا على يقين بأن العام الثاني من الاتفاق والثالث أيضاً سيكون عام الاتفاقيات الاقتصادية، لأن الاقتصاد بوابة لكل المجالات ويصلح ما تفسده السياسة والعسكرة. فمثلاً، العلاقات الايرانية التركية لم تكن في أفضل حالاتها في بداية العقد الماضي، لكن التبادل التجاري بينهما جعلهما يقفان على حافة الصراع من دون الوقوع فيه، فحافظا على يمكن تسميته "شعرة التوافق الاستراتيجي" من دون الوقوع في الهاوية.
والاقتصاد يمكن أن يحمي أي اتفاق سياسي، والتبادل التجاري هو صمام الأمان لكل صراع أو خلاف بين الدول، والأمير محمد بن سلمان يعي تماماً أن الاقتصاد هو حلقة الوصل والقطع بين الدول.