طوفان الأقصى: مسمار في نعش الليبراليّة الأميركيّة
تشهد القوّة العالميّة اليوم تحوّلات عميقة في التّكوين وفي توزيع الهيمنة من خلال تأكّل الأحاديّة القطبيّة نحو تعدديّة قطبيّة. العامل الحاسم في هذا التّكوين سيكون الانتخابات الأميركيّة القادمة.
شكّل طوفان الأقصى صدمة كبيرة للدول الكبرى، وخصوصاً لليبراليّة الأميركيّة. فباب المندب والكيان المحتل يشكّلان مركز ثقل للاستراتيجيّة الأميركيّة في الشرق الأوسط. فالأول يشكّل ممراً مائياً أساسياً للنفط، و"إسرائيل" هي الحليفة الاستراتيجية للولايات المتّحدة التي تسعى دائماً لحمايتها. اليوم يحاول الكيان المحتل، بشخص بنيامين نتنياهو، توريط الولايات المتّحدة في صدام مع محور المقاومة.
إنّ طوفان الأقصى شكّل واحداً من أبرز الأحداث السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، والتي جرت في عام 2023. هذه الأحداث ترسم القواعد الأساسيّة لمرحلة جديدة من العلاقات الدوليّة. ومع بداية عام 2024 بدأت ملامح المرحلة الجديدة تتبلور وتتّضح أطرافها وأهدافها وغاياتها.
اتسم العام الماضي بعدد من الأزمات التي لا تزال مشتعلة حتى اليوم. بعض هذه الأزمات اتصف بكونه حرباً بالوكالة تمثّلت بالصراع في أوكرانيا، وبعضها اتصف بصراع التّهديد الوجودي الذي تمثّل بحرب الإبادة الجماعيّة في غزّة، بالإضافة الى كثير من الأزمات التي بدأت تتكوّن وتشكّل تهديداً للاستقرار، وخصوصاً في الصراع على الجزر البحريّة في بحر الصين الجنوبي.
وظهر عجز في المؤسسات متعدّدة الأطراف، وخصوصاً الأمم المتّحدة، عن تحقيق الهدف الأساسي من تأسيسها، وهو حفظ السلم والأمن الدوليين، وصعود تعاون دولي اقتصادي يتمثّل بـ BRICS PLUS.
إنّ التدقيق في مسار الأحداث يُظهر تحدياً كبيراً تواجهه الليبراليّة الأميركيّة اليوم في منطقتين استراتيجيّتين في العالم، هما آسيا وأوروبا. من مظاهر هذا التّحدي محاولة كسر الأحاديّة القطبيّة التي تربعت على عرش النظام الدولي منذ مرحلة ما بعد الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991.
فما هي إذاً التّهديدات التي تواجه الليبراليّة الأميركيّة اليوم؟ وكيف سيكون للانتخابات الأميركيّة دور مباشر في حسم التطورات في الساحة الدولية؟ وما أفق هذه الأزمات في عام 2024؟
حاولت القوى الصاعدة كسر الأحاديّة القطبيّة، مع انتهاء الحرب العالميّة الثانيّة حتى سقوط الاتحاد السوفياتي. كانت العلاقات الدوليّة تمتاز بثنائية قطبيّة بين قوتين ذاتي أيديولوجيّات اقتصاديّة متباينة. انتهت الحرب الباردة مع تولي غورباتشوف رئاسة الاتحاد وتفكّكه داخلياً، نتيجة سياسة الاحتواء التي وافق عليها هاري ترومان. مع سقوط الاتحاد بدأ عصر الأحاديّة القطبيّة بزعامة الليبراليّة الأميركيّة.
مع صعود الصين والهند وروسيا والبرازيل اليوم، بدأت محاولات كسر هيمنة الليبراليّة الأميركيّة على القرارات الدوليّة من جهة، وعلى الاقتصاد العالمي من جهة أخرى. احتدام الصّراع بين الصين وروسيا في وجه الليبراليّة الاميركيّة أدى الى شلل في عمل مجلس الأمن الدولي. كان آخر مظاهر الشّلل الفيتو الأميركي ضد وقف الأعمال الحربيّة في غزّة بعد أحداث طوفان الأقصى.
تنامي دور BRICS
من أبرز التهديدات التي تواجهها الليبراليّة الأميركية الاقتصادّية اليوم هو تنامي دور دول BRICS بعد انضمام خمس دول جديدة، بينها السعودية وإيران، ودول أخرى تمتلك أكبر احتياطي للنّفط في العالم، الأمر الذي يسجَّل نقطة لمصلحة الصّين في مواجهة الليبراليّة الأميركيّة.
وبحسب تقرير للدكتور مصطفى رضوان، وهو أستاذ للاقتصاد والماليّة العامّة، والدكتور عصام الجوهري، وهو أستاذ نظم المعلومات وإدارة التّحول الرّقمي، نُشر في مركز الخليج للأبحاث في آب/أغسطس 2023، فإن التّجمع يستحوذ على 43% من إنتاج النّفط الخام في العالم، وينتج 32% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، الأمر الذي يشكّل تهديداً واضحاً للبترو - دولار من جهة، ويساهم في توسيع سيطرة الصّين الاقتصاديّة على العالم، من جهة أخرى.
بحسب ما ذكره موقع BRICS INDIA 2021 بشأن تطوّر البريكس، فإن أول قمّة للتّجمع كانت عام 2009 في روسيا، أي بعد عام تقريباً على الأزمة الاقتصاديّة العالميّة عام 2008، والتي سببتها الليبراليّة الأميركيّة، بحيث قررت كل من البرازيل وروسيا والهند والصين تأليف تجمّع يهدف إلى كسر أحاديّة النَطام المالي الغربي الموجود. فيكون هذا التجمع بمنزلة ساحة للتفاوض والتشارك بين الأعضاء بشأن القضايا والأزمات المشتركة. انتقد التّجمع سياسة كل من الولايات المتّحدة الأميركيّة وبريطانيا في إدارة البنك الدولي وصندوق النّقد الدولي.
أشارت الدكتورة أليسا أيروس، وهي عميدة كليّة إليوت للشؤون الدوليّة في جامعة جورج واشنطن، في تقرير لها نُشر في Council on Foreign Affairs في آب/أغسطس 2017، بعنوان “How the BRICS got here”، إلى أنّ الهدف الأساسي من التّجمع هو تسليط الضوء على حاجة القوى الناشئة إلى أن يكون لها صوت أكبر في الحوكمة العالمية. في عام 2012 انضمت جنوب افريقيا الى التجمّع فأصبح يطلق عليه اسم BRICS. وفي عام 2023 تمت الموافقة على انضمام كل من الإمارات والسعوديّة وإيران وإثيوبيا ومصر، فأصبح يسمى BRICS PLUS.
بحسب تقرير مصوّر نشرته DW NEWS في آب/أغسطس 2023 بعنوان “BRICS: Emerging counterweight in a multipolar world”، فإنّ أبرز ما قام به التّجمع هو تأسيس بنك التّنمية الجديد، لكسر السياسة الاقتصاديّة الدوليّة. وأشار التّقرير إلى أن هذا البنك يقدّم تمويلاً غير مشروط للدول عكس البنك الدولي وصندوق النّقد. وأضاف: يستخدم بنك التنمية الجديد في تعاملاته وتمويله عملات الدول الأعضاء بدلاً من الدولار. على رغم أن الولايات المتحدة الأميركيّة تقول إن التّجمع اليوم ما زال لا يشّكل تهديداً حقيقياً لأن شروط الانضمام إليه غير واضحة ويفتقر إلى وجود هويّة واحدة له، فإنه يُنظَر إليه كتحوّل جيو - سياسي مهم وبديل من النظام العالمي الليبرالي.
من المتوقّع ارتفاع عدد أعضاء BRICS PLUS مع الوقت، وخصوصاً بعد تنامي دور الصّين الجوهري في التّجارة والصّناعة الدوليين، بحيث يسعى بعض دول العالم لعدم حصر تعاملها في الدول الغربيّة وتوسيع مصادر صادراتها ووارداتها مع الصّين.
تحدي الهيمنة الأميركيةّ من خلال النزاعات العسكريّة
إن للانتخابات الأميركيّة هذا العام تأثيراً كبيراً في مجريات النّزاعات الدوليّة في العالم، وخصوصاً في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي والشّرق الأوسط. فالمؤشرات تدل على أنّ بايدن قلق من الانتخابات، وخصوصاً بعد أنّ بدأ يخسر جمهوره من جرّاء مواقفه بشأن الإبادة الجماعيّة في غزّة، والفيتو في مجلس الأمن، والرافض لوقف الأعمال الحربيّة، من جهة، ونتيجة التّضخم في الولايات المتّحدة، من جهة أخرى.
إنّ الصين تؤدي دورا جيو - سياسياً مميّزاً بعد ضمّ حلفاء للولايات المتّحدة الأميركيّة إلى BRICS، مثل الإمارات والسعوديّة. وساهمت الصين في تطبيع العلاقات بين إيران والسعوديّة من خلال انضمامهما إلى BRICS PLUS. تعمّدت الولايات المتّحدة عندها اعتماد سياسة الردع تجاه الصّين من خلال تحريك جبهة بحر الصين الجنوبي لتقويض حركة البوارج الحربيّة الصينيّة عبر إرسال سفن حربيّة تحت ذريعة حماية حريّة الملاحة البحريّة. في المقابل، تتهم الصين الولايات المتّحدة "بعسكرة" البحر.
أمّا الصّراع الأوكراني - الروسي فإنه شكّل انهزاماً استراتيجياً لليبراليّة الأميركيّة. وإنّ أيّ اتفاق على وقف إطلاق النّار سيكون هشاً كما صرّح المفكر الأميركي جون ميرشيمير في إحدى حلقات بودكاست ليكس فريدمان في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وحملت عنوان “How the war in Ukraine will end”، مؤكداً أنّ الوضع الأوكراني - الروسي قابلٌ للانفجار في أيّ لحظة.
في المقلب الآخر يحاول الكيان المحتل رفع حدّة استهدافاته في جنوبي لبنان وسوريا من أجل دفع إيران وحلفائها إلى الرّد من خلال توسيع رقعة الاستهداف والمبادرة بالهجوم، وبذلك يكسب الكيان المحتل تأييد الولايات المتّحدة الأميركيّة ودعمها، لوجستياً وعسكرياً، وفتح جبهة اقليميّة في المنطقة. ومن المتوقّع أن تقوم الليبرالية الأميركيّة بتفعيل سياسة "خطوة بخطوة" التي أطلقها كيسنجر عام 1974، من خلال العمل على تسريع مؤتمرات التّطبيع بين الدول العربيّة والكيان المحتل، والتي توقفت نتيجة العدوان على غزّة ومحاولة إعادة حلفائها إلى كنفها، وخصوصاً السعوديّة، وسحبها من كنف دول BRICS PLUS.
إنّ التّصعيد اليمني في باب المندب، متمثلاً باستهداف السفن البحريّة التجاريّة المتوجهة إلى الكيان المحتل، شكّل نقلة استراتيجيّة نوعيّة في طبيعة الصراع وأسلوبه، بحيث نقل ناقوس الخطر من جنوبي لبنان وغزّة إلى البحر الأحمر، إذ إنّ إيقاف الملاحة البحريّة هناك يؤثر في تجارة النّفط الخام المتوجه إلى أوروبا من جهّة، ويضرب اقتصاد الكيان المحتل، لأنّ التجارة البحريّة من خلال باب المندب تشكّل شرياناً حيوياً للتجارة العالميّة.
مستقبل شكل النّظام الدولي
تشهد القوّة العالميّة اليوم تحوّلات عميقة في التّكوين وفي توزيع الهيمنة من خلال تأكّل الأحاديّة القطبيّة نحو تعدديّة قطبيّة. العامل الحاسم في هذا التّكوين سيكون الانتخابات الأميركيّة القادمة، والتي ستجسّد معركة بشأن شكل الليبراليّة الأميركيّة الجديدة. فالمعركة هي بين الليبراليّة الديمقراطيّة، متمثّلةً بالقوّة الناعمة، والليبراليّة الجمهوريّة المتمثّلة بالقوّة الصّلبة.
انطلاقاً من واقع الانتخابات الأميركيّة وتصاعد وتيرة الأحداث في العالم في أكثر من جبهة، وإصرار القوى الصاعدة على عدم الاستسلام في محاولاتها كسر الأحاديّة القطبيّة، من الواضح أنّنا ذاهبون في الوقت الراهن إلى نزاعات منخفضة الحديّة، الأمر الذي يعني فتح جبهات وتهدئة جبهات، بحسب ما تقتضيه الضرورة.
إنّ الليبراليّة الأميركيّة تخشى سياسة حلفائها تجاه الصّين، واستمرار دول الخليج في بيع النّفط بغير الدولار لروسيا والصّين، وتخشى انضمام السعوديّة والإمارات إلى دول BRICS، الأمر الذي يقوّض نظام البترو دولار. ولديها مخاوف من تحوّل الصين إلى ضامن أمني لغرب آسيا إذا ما حققت أهدافها في بحر الصين الجنوبي.