طهران تقود ثقافة الانتصار بعقلية المستقبل

ينظر البعض لمفهوم «النصر» بشكل سطحي كمجرد تحقيق هدف مادي دون النظر للسياق المحيطة به. لكن هناك رؤية أعمق ينبغي أن تأخذ في الاعتبار معايير نسبية لتقييم النتيجة المادية، وكذلك البعد المعنوي.

  • إيران تحتفل بالنصر (أرشيف).
    إيران تحتفل بالنصر (أرشيف).

أخيراً، أعترف الكيان الصهيوني بأنكساره وطالب بوقف لإطلاق النار بينه وبين إيران، وما دفع بنيامين نتنياهو إلى هذا الطلب بواعز أميركي هو حجم الخسائر داخل كيانه الإستيطاني وعدم رغبة البيت الأبيض باتساع المواجهة في المنطقة. 

المجتمع الإستيطاني الصهيوني كان خلال الأيام الماضية ضحية مصطلح البروباغندا الإعلامية الصهيو/ غربية، وصدق إمكانية القضاء على «الخطر الوجودي الإيراني»، لكن اتساع دائرة الدمار في الكيان الصهيوني دفع المؤسسة الأمنية والسياسية للضغط على رئيس الحكومة من أجل التراجع والطلب بوقف إطلاق النار.

هدف الكيان الصهيوني تبدل مع بدء المواجهة العسكرية وهو لم يعد مجرد ضرب المنشآت النووية، فهو يدرك أن هذا هدف بعيد المنال رغم اغتيال العلماء وتخريب الموارد. كما أن تحجيم القوة الصاروخية والقدرة الصناعية الإيرانية لن ينجح أيضًا.

ولكن الهدف الحقيقي «للصهيو أميركي» هو الاقتصاد الإيراني: قطاع الطاقة، والصناعات البتروكيمياوية، والغازية، والفولاذ وغيرها – وهي مفاصل قوة الدولة الإيرانية ومصادر تماسكها. ولذلك فإن نتنياهو، ومن يشاركه أميركيًا وأوروبيًا، سعوا إلى إسقاط النظام السياسي في طهران واستبداله بنظام جديد عميل لهم.

ولكن ما أربك هذا المخطط هو إدراك الإيرانيين، بمن فيهم المعارضون الوطنيون في الداخل والخارج، أن بلادهم أصبحت هدفًا لحرب شاملة تهدد وجودهم، واقتصادهم، ومستقبل أجيالهم. لذا فإنهم أكدوا على أن التماسك الداخلي في ظل العدوان قد يعزز بدل أن يتفكك، وهو ما أفرغ استراتيجية «التمرد الداخلي» الذي سعى إليها أعداء إيرن من مضمونها.

كان موقف المعارضة الإيرانية الوطني درساً في المسؤولية للمعارضة في كل من، العراق وسوريا ولبنان، تلك المعارضة التي ذهبت بعيدًا في التآمر على دولها مع الأحتلالات.  

ينظر البعض لمفهوم «النصر» بشكل سطحي كمجرد تحقيق هدف مادي محدد دون النظر للسياق والملابسات المحيطة به. لكن هناك رؤية أعمق ينبغي أن تأخذ في الاعتبار معايير نسبية لتقييم النتيجة المادية، وكذلك البعد المعنوي المتمثل في تجسيد قيم العزيمة والمثابرة.

ينبغي علينا إذن أن ننظر لمفهوم النصر الإيراني في هذه الجولة بعمق، من خلال منظوريه المادي - حسب معايير نسبية وليست مطلقة - فضلا عن المنظور المعنوي.

ولكن من صنع الانتصار المزدوج، ومن دافع عن الهزيمة وتضرر منها؟

التاريخ وحده سيجيب عن كل الأسئلة التي تطرح وستطرح الآن وفي المستقبل، والتاريخ وحده سيسجل الحقيقة كما هي وسيفرز الناس، بين الذين صمدوا وتصدوا بشجاعة دفاعًا عن بلادهم، وأولئك الخونة الذين غدروا وطعنوا بوطنهم في الظهر قبل وخلال العدوان، وتحالفوا مع أعداءهم وتجار الموت والدمار والحروب. ‏

قريبًا ستفتح صفحات التاريخ.. ولن يمر وقت حتى نقرأ الحقائق كما هي دون «رُتوش» أو تحريف أو تزوير، ألسنا في زمن التزوير والزيف والأكاذيب الإعلامية، الغربية والعربية؟ ‏

اليوم يحق للشعب الإيراني المجاهرة بمشاعر الفخر والعزة والكرامة رغم الخسائر البشرية والمادية، وهو يتذكر بطولات جيشه الذي سجل بدمائه الزكية وبصبره وجهاده أنصع صورة في التاريخ الحديث والمعاصر، فهو لم يقهر جيشًا ­ قيل عنه لا يُقهر­ بل واجه قوة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية أيضًا واجبرها على إعادة قراءة الوقائع على الأرض بعيدًا عن الأوهام والأحلام. ‏

النصر العسكري الإيراني على أهميته البالغة في الجولة الأولى، ليس إلاّ الشق الميداني المباشر من النصر الكبير عندما تبدأ هذه الدولة الإقليمية العظمى في الاستمرار ببناء دولة ذات ثوابت سيادية واجتماعية واقتصادية ومستقبلية، بناء الدولة أو إعادة بناءها أمر في غاية الصعوبة، وببساطة لكي تبني دولة يجب أن تفكر بعقل المنتصر، وعقل المنتصر دائما مشغول بالبناء والمحتوى والتقدم للأمام، وليس مشغولا بالأوهام أو لوم الذات أو التقليل من شأن ذاته أو الخضوع للإملاءات، بل هو موجه داخليًا لتحقيق الانتصارات تلو الانتصارات، فهو مشغول طول الوقت بالانتصار للمستقبل.

أما الشق الثاني الذي قد يفوقه أهمية، فهو الشق السياسي والمتمثل في تراجع المشروع الأميركي الخطير المعدّ في كواليس إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والدولة العميقة، والمعروف باسم مشروع «الشرق الأوسط الجديد». ‏

ليست هذه استنتاجاتنا وتحليلاتنا، بل هي اعترافات صريحة من قبل المهزومين أنفسهم.‏ فالاعلام الصهيوني، كما الأميركي، اعترف بالفشل علنًا، وكل من يكابر ويرفض سماع هذه الاعترافات فهو كمن يغمض عينيه ويسير نحو المجهول. ‏

وهنا يمكننا التأكيد على الهزيمة العسكرية التي اصابت الكيان الصهيوني وجيشها من جهة، والهزيمة السياسية للإدارة الأميركية التي لها نصيب من الهزيمة العسكرية، هي من كان يمنع أي قرار بوقف إطلاق النار بوهم أن «إسرائيل» ستنتصر، وهي التي نقلت الأسلحة الذكية والغبية والمحرّمة دولياً، لظنها أن الكيان الصهيوني قادر على أن يكون القابلة القانونية لتوليد «الشرق الأوسط الجديد» من رحم الدمار والموت والدم في فلسطين ولبنان وسوريا. ‏

وبما أن نصف «الهزيمة» كان مزدوجًا (إسرائيليًا وأميركيًا)، فالنصر الإيراني كان مزدوجًا بدوره ويسجل بأحرف من نور ونار ودم في سِفر التاريخ، وسيظل مفخرة للمنطقة. ‏وغدًا سنرى من نصّب نفسه محامياً للشيطان ورافضًا الاعتراف بنصر إيران وهزيمة العدوان والمشروع الأميركي­ الصهيوني. ‏وعندما جاء «نصر الله والفتح» لن يعترف أصحاب «ثقافة الهزيمة» به، بل سيعتبروه كارثة ستحل بالمنطقة! ‏ «فللمهزوم ثقافته كما للمنتصر ثقافته» كم قال الإمبراطور والفيلسوف الروماني ماركوس أوريليوس في كتابه الشهير «التأملات».

تقودنا هذه الظاهرة إلى فهم أعمق لكيفية تحول الذاكرة الجماعية الإيرانية خلال العدوان عليها إلى أداة حياة، تُستخدم لإعادة كتابة التاريخ، وصياغة الحاضر، وتوجيه المستقبل، تحت راية "النصر" و"الشهادة".