صراعنا المستمرّ والنصر القادم
إنّ من يرسم الرد الاستراتيجي الدقيق هو محور المقاومة، وذلك رغم خسارة خيرة رجال التنفيذ والتنظيم. لقد أثبت هذا المحور أنَّ يده الطولى ستكون حاضرة براً وبحراً وجواً.
في الصّراع القائم بين قوى المقاومة والكيان الصهيونيّ أكثر من مغزى وعبرة، منذ الثورة الفلسطينيّة في ثلاثينيات القرن الماضي، وهذا المدّ الهائل عنفواناً وكرامةً وعزةً، إلى النكبة في العام 1948، ثم بناء الكيان الصهيوني سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ونخبوياً عن طريق فرز الكثير من المنظّرين والأكاديميين لفكرة الظلم والتعسف التاريخي الذي لحق بهم كشعب، وما مُورس عليهم من قهر واستعباد، إلى التطوّر التقني بمعاونة الغرب والمصاحب لنظرة فوقية استعلائية ثبّتت أقدامها بعد نكسة 1967.
وأخذت جرعات من القوة الفائضة التي خارت بعد حرب تشرين 1973، والتي يسمونها "حرب الغفران"، والتي شكّكت في مدى استمرار هيكل النفاق والتسلّط، حيث قيل الكثير، ولعلّ أبرزه ما قاله الكاتب الصهيوني ناتال ريفون: "إن حرب يوم الغفران أعادت إلى إسرائيل الخوف على وجودها ذاته"، وأضاف: "إنَّ أكثر ما يقضّ مضاجعنا هو علامة استفهام كبيرة تحوم الآن في سماء البلد، وترسم بين عيني من آمن إيماناً صوفياً بقوتنا وعدالة موقفنا، ومن بنى أحلاماً عريضة بإمبراطورية إسرائيلية".
وأردف قائلاً: "إنَّ الأسئلة التي أثيرت في الماضي، وسببت لنا قلقاً شديداً من دون جواب، وتعمّقت بصورة أكبر، هي المواجهة مع القيم، مثل قيم الحياة أو الموت أو البطولة والتضحية والجبن والإخلاص والأنانية ومصلحة الجموع".
هذه المواجهة مع القيم ليست سوى انعكاس للاهتزاز والخلل اللذين أصابا المجتمع الصهيوني نتيجة حرب تشرين 1973، ناهيك بالعمليات التي قامت بها المقاومة في فلسطين في سبعينيات القرن الماضي، كعملية الخالصة (كريات شمونة) وترشيحا (معالوت) وأم العقارب ونهاريا وبيسان (بيت شان)، والتي ضربت جميعها نظرية الأمن الصهيونية، عدا عن عملية "سافوي" و"كفريوفال" و"المطلّة" و"كفار جلعادي"، والتي آذت الصهاينة بشرياً ونفسياً، وشكّلت إحباطاً عملياتياً سبّب الهلع والرعب على كامل التراب المحتل.
وبعدها، انتقلنا إلى مرحلة 1982؛ مرحلة صعود المقاومة في لبنان، والتي فرضت أجندتها وخياراتها وعملياتها النوعية ضد المحتل والعملاء، مروراً بعدواني 1993 و1996، وترسيخ سلاح الكاتيوشا وتفاهم نيسان، مروراً بتحرير 2000 وحرب 2006، وما رافقها من نكسات على صعيد الإدارة والتخطيط الصهيونيين، إذ أبرزت لجنة فينوغراد عناصر الهزيمة وما سمّته تلطيفاً "الإخفاقات"، وعدم تقدير قوة الخصم ومدى تحضيره الجدي عدةً وعتاداً أو سلوكاً وتنظيماً وقيادةً.
وانتقلنا بعدها إلى غزة والحروب المتواصلة عليها، إذ أظهر المقاومون بسالة منقطعة النظير في التصدي للاعتداءات والوحشية، رغم صغر مساحة القطاع ومحدودية الجغرافيا التي يمكن أن تعوّق تقدّم العدو (السهول والأراضي المنبسطة)، ولا ننسى الشيخ جراح والاندفاعة اللامتناهية في التمسك بالأرض والهوية.
إنَّ الخطّ التصاعدي الَّذي رسمه هذا المحور بين لبنان وسوريا وفلسطين والعراق وإيران يشي بشكل قاطع لا مجال للشكّ فيه بأنَّ الحرب القادمة، إن حصلت، ستحمل الويل والثبور وعظائم الأمور لهذا الكيان الَّذي اعتقد أنَّ قوته الرادعة وحربه المفاجئة حاسمة، ثم انتقل إلى الاعتقاد بأنه سيحقق نصراً مبيناً من خلال سلاح الطيران والحرب البرية المؤلّلة والمدرعة، فعمليات استخبارية أمنية معقّدة تقتل قادةً وأصحاب عقول تنسج ضعفاً في البنية التكتيكية، واستثمار حرب سوريا وتقوية الجماعات الإرهابية وخلق مناطق آمنة أو أحزمة أمنية تحمي الأراضي المحتلة.
إنَّ من يرسم الرد الاستراتيجي الدقيق هو محور المقاومة، وذلك رغم خسارة خيرة رجال التنفيذ والتنظيم. لقد أثبت هذا المحور أنَّ يده الطولى ستكون حاضرة براً وبحراً وجواً (الخليج، وضرب السفن الصّهيونية، والردّ في سوريا ولبنان، وحرب المسيّرات القادمة أكثر فأكثر).
إننا هنا لا نتكلَّم عن سردية إنشائية تنطلق من عاطفة وانفعال يحاكي انتماءنا الوطني أو الميل الأيديولوجي بمجموعة مفاهيم نؤمن بها، بل تحاكي أرقاماً ووقائع بمسار تصاعدي ما زال يُؤتي ثماره. وها نحن الآن نرى هذا الكيان كيف يترنّح، بعد أن قال يوماً ما مناحيم بيغن الحائز على "نوبل للسلام!" في العام 1978: "إننا نرى شمالنا في سهول سوريا ولبنان الخصيبة، وشرقنا في وديان الفرات ودجلة الغنية، وفي الغرب بلاد مصر".
وبعد أن حدَّد بن غوريون خطوط الكيان بقوله: "فليفهم الجميع أنَّ إسرائيل لن تقنع بحدودها، وأنَّ الإمبراطورية الإسرائيلية سوف تمتدّ من النيل إلى الفرات"، أعلن موشيه دايان العسكري والسياسي الَّذي سار على رأس العسكر الصهيوني في كل غزو عبر الراديو الإسرائيلي في 12 شباط/فبراير 1952: "على الشعب أن يتهيّأ للحرب، وعلى الجيش الإسرائيلي أن يقوم بالقتال، وهدفه الأسمى هو بناء الإمبراطورية"، وغيرهم كثر.
إنَّ هذا الحلم البغيض رافقه وسيرافقه الكثير من ظاهرة التساقط (اليهود الذين غادروا الاتحاد السوفياتي في سبعينيات القرن الماضي على أساس التوجّه إلى الكيان، ولكنهم حولوا وجهة سفرهم في الطريق إلى دول غربية)، ومن غياب النخب القيادية وقدرتها على فهم وتحليل قدرات ورؤى الأعداء والهزائم المدوية التي ستفرز وقائع جديدة بدأت إرهاصاتها في عدة ميادين.
بناءً على ما تقدّم، سيبقى الكيان مجرّد حصن وقلعة أمامية للاستكبار العالمي، و"دولة" الظلم والباطل هذه، مهما تمَّ حقنها بالمسكنات وشحنات الحياة، ليس لها عمر، ولن تثبت. يقول المؤرخ أرنولد توينبي: "سيضطرّ اليهود إلى الهجرة من فلسطين"، وهو أمر طبيعي، نتيجة إصرار المظلومين على سحق الظالمين، ومحو الظلم الذي لحق بهم، ولنستبشر مع وقائع حاسمة في كل الميادين.