زيلينسكي واللعب في الوقت الضائع
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يلعب في الوقت الضائع، الذي لن يُسْعِفَهُ في تحقيق مبتغاه، ولم يبق أمامه سوى خيارين، أحلاهما مُرّ:ٌ
قبل أيام، أعلن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، استعداده للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للتباحث في إمكان تنازل أوكرانيا لروسيا على أراضي شبه جزيرة القرم في مقابل انسحاب روسيا من أراضي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، واللتين انضمتا إلى الاتحاد الروسي في عام 2022، بموجب استفتاءٍ شعبي.
في واقع الحال، لم يأت زيلينسكي بجديد بخصوص هذا الموضوع، فلقد سبقه اقتراح مماثل قدمته الإدارة الأميركية يقضي بتنازل كييف عن 20 في المئة من الأراضي التي كانت خاضعة لأوكرانيا لفائدة موسكو في مقابل وقف الحرب.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه، هو: ما الذي استجد حتى يبادر زيلينسكي إلى طرح هذا المقترح على موسكو؟
إذا تتبعنا مسار الحرب منذ فشل الهجوم المضاد، نجد أن هناك عدداً من المؤشرات التي دفعته إلى إعلان نية التفاوض، أبرزها:
- يَقِينُهُ التام بأن إلحاق هزيمة عسكرية بروسيا أضحى أَمْراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً، بسبب الضربات القاصمة التي باتت توجهها القوات المسلحة الروسية مؤخراً إلى نظيرتها الأوكرانية في عدة جبهات، وكَلَّفتهَا كثيراً من الخسائر في الأرواح والعتاد والذخيرة.
- عجز السلطات الأوكرانية عن تعبئة نحو 300000 جندي والزج بهم في ساحات الوغى خلال المراحل المقبلة من الحرب، بعد أن فقدت مثل هذا العدد من الجنود، وفق تقارير غربية، وهو ما مكن الرُّوس من إحراز تقدمٍ عسكريٍّ في عدة محاور.
- تلكؤ الدول الغربية والخلافات بين قادتها بشأن جدوى تقديم مزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية من أجل تمويل الجهد الحربي الأوكراني، ورفض الكونغرس الأميركي الموافقة على تقديم المساعدات إلى أوكرانيا، وهو قد يشكل هاجساً لدى القادة الأوكرانيين من أن يتخلى عنهم حلفاؤهم.
ويبدو أن الرئيس فولوديمير زيلينسكي يلعب في الوقت الضائع، بسبب التخبط والعشوائية اللذين اتسمت بهما سياسته في تدبير الصراع مع روسيا، أولاً عندما رفض التفاوض مع الرئيس فلاديمير بوتين ما بقي الأخير في السلطة، عبر توقيعه مرسوماً رئاسياً يحظر على نفسه ذلك، وهو ما دفع حينها الكرملين إلى الرد بالقول إن "عمليته العسكرية الخاصة" في أوكرانيا لن تنتهي إذا استبعدت كييف الدخول في محادثات، ولفت إلى أن "التفاوض يتطلب جانبين".
واليوم، يناقض الرئيس زيلينسكي نفسه بالإعراب عن استعداده للتفاوض مع بوتين وفق المقترحات التي أعلنها، وهو الذي وعد الشعب الأوكراني، فور انتخابه رئيساً لأوكرانيا، باستعادة شبه جزيرة القرم من روسيا بالقوة العسكرية، وهو ما يُعَدّ تناقضاً في سلوكه وتنازلاً كبيراً سيجعله في مواجهة مباشرة مع القوى السياسية في البلاد - وخصوصاً المتطرفة، والتي لا تخفي عداءها لكل ما هو روسي - وشعبه الذي زج به في صراع كان من الممكن تفاديه منذ البداية.
كما أن روسيا صرّحت أكثر من مرة، على ألسنة كثيرين من مسؤوليها، أوّلهم الرئيس فلاديمير بوتين، بأنها لن تتفاوض مع كييف إلا وفق الواقع الحالي الذي فرضته موسكو في الميدان. بمعنى آخر، فإن موسكو لن تتنازل عن الأراضي التي ضمتها إليها وأصبحت جزءاً من ترابها، بموجب أحكام الدستور الاتحادي. وما على حكام كييف سوى قبول الواقع الجديد والتخلي عن فكرة الانضمام إلى حلف الناتو.
بالإضافة إلى ذلك، تكتسي المنطقتان أهمية بالغة لروسيا، لأن شبه جزيرة القرم، كونها منطقة استراتيجية تطل على البحر الأسود، فإنها تُقَرِّبُ موسكو إلى المياه الدافئة، في حين يُعَدّ إقليم الدونباس غنياً بالمعادن والموارد الطبيعية ومصانع الصلب والحديد وغيرها، وهو ما يشكل إضافة نوعية الى الاقتصاد الروسي.
لذا، يبدو أن نجاح المفاوضات بين الجانبين، على افتراض حدوثها، مستحيل، لأن القيادة الروسية ليست بالغباء الذي يجعلها تعيد أي شِبْرٍ من إقليم الدونباس إلى أوكرانيا بعد كل هذا المجهود الذي بذلته، حربياً واقتصادياً. يضاف إلى ذلك ميزان القوى، الذي يصُبُّ في مصلحة روسيا، وليس لأوكرانيا ساعتها من بُدّ سوى قبول الشروط الروسية، لأنها في موقف ضعف، ولا تملك أي أوراق تساوم بها روسيا، من أجل دفعها إلى قبول التسوية، لأن المفاوضات كان يجب أن تتم قبل الحرب أو خلالها، حينها يكون لكل طرف ما يقدمه من تنازلات متبادلة تفضي إلى إيجاد تسوية.
كان للرئيس زيلينسكي فرصة الجنوح إلى التسوية قبل الحرب وعند بدايتها، عندما كانت مطالب روسيا واضحة وبسيطة، وتضمنت تطبيق اتفاقيتي مينسك وضمانات أمنية بعدم دخول أوكرانيا حلف الناتو، ورفض كل المبادرات الروسية، إلا أنه آثر أن يجعل بلاده دولة وظيفية للإضرار بروسيا جيوسياسياً، والإيغال في عدائها على رغم علمه بالفارق المهول بين بلاده وروسيا في العدد والعدة، عبر اتِّبَاعِ سبيل الولايات المتحدة الأميركية والغرب، في مقابل وعود منحاها له ويعرفان مسبقاً أنهما لن يفيا بها لأوكرانيا.
ربما لم يقرأ زيلينسكي مقولة الزعيم السوفياتي الراحل نيكيتا خروتشوف عن الغرب، عندما قال في هذا المجال: "عندما يصفّق لي الغرب، أعرف أنَّني اقترفت خطأً فادحاً"، مثلما لم يقرأ مقولة الزعيم السوفياتي الراحل ليونيد بريجنيف: "القائد الذي يرى بعيون الآخرين لا يصلح للقيادة".
خلاصة القول أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يلعب في الوقت الضائع، الذي لن يُسْعِفَهُ في تحقيق مبتغاه، ولم يبق أمامه سوى خيارين، أحلاهما مُرّ:ٌ إما مواصلة السير في طريق الحرب، مع ما يترتب عليه من عواقب، وإما قبول الشروط الروسية، ويعني ذلك الاستسلام. ويبقى السؤال: أي الخيارين سيختار زيلينسكي؟ لننتظرْ وَنَرَ.