رمضان والشيخ باسل المسيحي
لأنها الأمن والأمان، ولأن هذه هي أخلاق شعب سوريا؛ سوريا العظيمة بقلبها، العميقة بحضارتها، المليئة بتاريخها، الكبيرة بمواطنيها جميعاً.
لم يخطر لي مطلقاً أن تناديني سيدة: "فضيلة الشيخ". كانت أجواء رمضان تُضيف البهجة إلى اجتماع عائلي. ورغم أنني مسيحي وأقربائي مسيحيون، فإنَّ أجواء شهر رمضان الفضيل لها خصوصيتها في مجتمعي الصغير وضمن مدينتي الرائعة حلب في سوريا.
بالكاد سمعتُ صوت رنين هاتفي الخليوي. ومن رقمٍ عرفتُ أنه يعود إلى إحدى الدول المغاربية، جاءني صوت أنثوي يقول بلهجة مغاربية: "لَسْلامُ عليكم"، فأجبتها كعادتي: "وعليكم السلام".
تابعتْ صاحبة الصوت بلهجةِ السؤال: "فضيلة الشيخ باسل من سوريا؟".
صُعقتُ، إذ لم ينادني أحدٌ بهذا اللقب من قبل. قلت لها وأنا لا أريدُ الإطالة عليها بالشرح بأنني غير مُسلم، بالرغم من كوني مستشاراً لمفتي سوريا: "نعم".
قالت لي: "الحمد لله مولانا. حَصَلت على رقم هاتفك من الإنترنت. أنا من الجزائر وعندي سؤال فقهي".
ارتبكتُ قليلاً. أما هي، فقد تابعت عرض السؤال، وفهمتُ من سيرِ الحديث أنها ستطيل، فقلت لها: "أختي الكريمة، سأرسل لك عنوان بريدي الإلكتروني الخاص في رسالة نصية. تستطيعين أن تكتبي سؤالك برويّة، وتعرضي مُشكلتكِ بكلِّ أبعادها، وسأقرأها ثم أرسل إليك الإجابة، منعاً للكلفة التي ستتكبّدينها من خلال الاتصال، إضافةً إلى أن الفتوى على قدر النص، فاكتبي برويةٍ وهدوء، وستتم الإجابة بإذن الله".
في صباح اليوم التالي، وصلتني الرسالة، وقد بدأت: "السّلام عليكم الدكتور والشيخ باسل نصر الله، جزاكم الله خيراً وحفظكم الله"، وأردَفَتْ أنها تريد أن تستفسر عن سؤالٍ فقهي، وتابعتْ بشكل تفصيلي عارضةً المشكلة التي تطلب رأي الشرع فيها.
وفي آخر رسالتها كتبتْ: "أستفسرُ منكم فضيلة الشيخ عن أمري هذا، وشكراً جزيلاً. جزاكم الله خيراً وحفظكم، وحماكم لنا فضيلة الشيخ باسل نصر الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
طبعاً، قمت بتحويل الرسالة إلى علماء الدين الإسلامي، وشرحت لهم ما حدث. وبعد أيام، تلقيت نص الإجابة، فحوَّلته إلى السيدة الجزائرية، وأعلمتها أنَّ الإجابة هي من الشيوخ الأجلاء، كما أرفقتُ لها مقالةً كنت قد نشرتها بعنوان "مسيحي ينام في المسجد"، وهدفي من ذلك أن تعرف أنَّني مسيحي.
في أول أيام شهر رمضان الفضيل، ذهبتُ إلى جامع الروضة في حلب خلال صلاة التراويح، لأُقدم التهاني لمفتي سوريا والإخوة المسلمين بحلول هذا الشهر، إذ نقول: "مباركة طاعتكم". وهناك، كان لفيف من علماء الدين الإسلامي الذين قَدِموا أيضاً للتهنئة، وكان منهم من يعرف قصة الأخت الجزائرية، فبادروني مبتسمين: "السلام عليكم فضيلة الشيخ باسل"، وأصبح الكثيرون منذ ذلك الوقت ينادونني فضيلة الشيخ باسل.
هذا المسيحي يعلم تماماً أن "هذا الدين علم فاعرفوا من أين تأخذون علمكم"، وهو يتابع ويطلب من أصحاب العلم أن يعطوه الإجابة، ليحوِّلها إلى السيدة الجزائرية التي لم تكن تتوقع أن مستشار مفتي سوريا هو إنسان مسيحي.
يأتي رمضان وهذه الذكريات تمرّ بذاكرتي.
لماذا الفتوى من "بلاد الشام"؟
لأنها الأمن والأمان، ولأن هذه هي أخلاق شعب سوريا؛ سوريا العظيمة بقلبها، العميقة بحضارتها، المليئة بتاريخها، الكبيرة بمواطنيها جميعاً.
كل عام وكُلُّنا لِكلِّنا.
كل رمضان ونحن بخير.
مباركة طاعتكم.