رسالة العائدين إلى قراهم وبلداتهم: المقاومة خيارنا ولو بالصدور العارية

ثمّة حاجة لقراءة مشهد العودة إلى البلدات والقرى الجنوبية بعيون أهلها، على نحو الاعتراف بأنّ هؤلاء هم الذين خسروا قائدهم شهيد الأمّة، ورفاقه القادة، وقافلة كبيرة من شهداء المواجهات في الميدان.

  • أكثر ما فاجأ العدوّ، هي العودة الشجاعة على توقيت أهل الجنوب.
    أكثر ما فاجأ العدوّ، هي العودة الشجاعة على توقيت أهل الجنوب.

ما شاهدناه وشاهده العالم منذ اللحظات الأولى لانتهاء مهلة الستين يوماً التي أعقبت وقف إطلاق النار في لبنان، من زحفٍ لأهل الجنوب باتجاه البلدات والقرى الجنوبية ولا سيّما الأمامية منها، حاملين رايات المقاومة، بعث برسالة إلى كلّ من يعنيهم الأمر في الداخل والخارج، مفادها أنّ أصحاب الأرض الذين أُريد لهم أن ينفصلوا عن أنفسهم (أي الأرض والمدافعين عنها)، أصبحوا بعد الحرب، أشدّ التصاقاً وتمسّكاً بأرضهم وخيارهم ومقاومتهم.

جلّ هؤلاء الناس الذين ولّوا وجوههم شطر أرض الآباء والأجداد، وسارت الأقدام إلى حيث يجب أن تسير، كان شريكاً في التضحيات. فمن يجرؤ على جعل هؤلاء الناس يدفعون ثمن خياراتهم في زمن السلم فضلاً عمّا جرى عليهم في زمن الحرب؟ وهم الذين لم يُهزموا في الميدان، ولم تنل من عزيمتهم أو تكسرهم آلة العدو الهمجية التي أزهقت الأرواح وعاثت في القرى والبلدات دماراً وفساداً.

بالإضافة إلى معاقبة هذه الشريحة السيادية على التمسّك بخيارها المقاوم وورقة قوتها في وجه العدوّ، وذلك من خلال العبث بالتوازنات السياسية الداخلية وعلى رأسها الميثاقية والتمثيل داخل مؤسسات الدولة وإداراتها.

وزاد من وقاحة هذا البعض والمنفصلين عن الواقع أنهم يريدون أن يدفعوا هؤلاء الناس للانفصال عن تاريخهم وحاضرهم عبر دسّ السمّ بالعسل من خلال تمجيد حراكهم التحرّري من جهة، وشيطنة مقاومتهم والتصويب عليها والنيل من خياراتهم من جهة أخرى، مع علمهم أنّ هؤلاء الناس أنفسهم اندفعوا إلى قراهم وبلداتهم، بدوافع ذاتية ووطنية، مستندين إلى بطولات أبنائهم الذين سطّروا أروع الملاحم البطولية خلال مواجهاتهم المشهودة والمثمرة والواضحة النتائج على مدى سنوات الصراع المفتوح مع العدوّ ولا سيّما في المواجهة الأخيرة، ومستندين في الوقت نفسه إلى جاهزية وحضور أبنائهم وأبطالهم للدفاع عنهم وعن أرضهم وعن حرية الإنسان وسيادة الوطن في أيّ لحظة تطلب منهم قياداتهم ذلك وفق رؤيتها وخططها وتوقيتها.

فأيّ وقاحة تصل ببعض الشركاء في الوطن حدّ الاستثمار الرخيص، من خلال الرقص على جثامين الشهداء وركام البيوت والدمار الذي غطّى قرى بأكملها، وتحميل المسؤولية للمدافعين عن أرضهم والمطالبين بإزالة الاحتلال واسترداد حقوقهم، وعدم إدانة القاتل والمحتلّ والمعتدي على الوطن وسيادته.

كلّ ذلك يحصل مع إدراكهم حقيقة فشل العدوّ في تحقيق أهدافه من العدوان، وعدم قدرته على إلحاق الهزيمة بالمقاومة وشعبها وبيئتها أو سلب إرادة القتال من رجالها، ناهيك عن فشله في تحقيق أهداف الحرب غير المعلنة وفي مقدّمتها التهجير القسرى لأهل القرى الجنوبية وإنشاء المنطقة العازلة، وهو هدف مرتبط مباشرة بالقضاء على الارتباط الوثيق والمتأصّل في نفوس وعقول العائدين الى حيث يجب أن يعودوا.

أمّا العدوّ الذي شاهد المتحمّسين لمعانقة ما بقي من ممتلكاتهم، غير آبهين بآلة العدو وجنوده فضلاً عن نيرانه التي وجّهها بكلّ حقد وغيظ وصلف، وبإجرام لا يترك مجالاً للشكّ حول عدوانيّته وإجرامه، والذي ما زال يعاني الصدمة لرؤية أبناء الجنوب يعودون إلى الديار قوافل وجماعات، فيما مستوطنو الشمال يفقدون الحافزية والشعور بالاندفاع والحماس للعودة إلى مستوطناتهم، ولا سيّما أنّ حكومة الكيان بقيادة اليمين المتطرّف، عقدت الآمال على "لا" عودة من دون إشعار اَخر، وهو الإشعار الذي لم يكن موجوداً في قاموسها حينما أعلنت أهداف الحرب على لبنان، وهو الإشعار الذي ما كان ليسمع به الجنوبيون فيما لو خسرت المقاومة – لا سمح الله  - معركتها مع العدوّ.

ربّما أكثر ما فاجأ العدوّ، هي العودة الشجاعة على توقيت أهل الجنوب، يؤازرهم في هذه العودة الجيش اللبناني، ما ساهم بتفويت الفرصة على العدوّ وعلى كلّ من يريد أن يتسلل لزرع الفتنة بين الشعب والجيش من خلال القرارات الدولية (1701، نموذج)، أو يريد للجيش أن يكون حارساً لحدود العدو. وعليه، كان لزاماً على الكيان بكلّ مكوّناته أن يعيش حالة الإحباط نتيجة هذه المشاهد التي كرّست الانتصار كمفهوم للسيادة الحقيقية والفعلية، وبالخطوات الملموسة لا بالشعارات "التي تلوكها الألسن"، كما قال رئيس مجلس النواب نبيه بري.

وعليه، ثمّة حاجة لقراءة مشهد العودة إلى البلدات والقرى الجنوبية بعيون أهلها، على نحو الاعتراف بأنّ هؤلاء الذين خسروا قائدهم شهيد الأمّة، ورفاقه القادة، وقافلة كبيرة من شهداء المواجهات في الميدان، بالإضافة إلى الشهداء من المدنيين العزّل، ربحوا هذا الوجود بعزّ، كما ربحوا عودتهم إلى أرضهم مرفوعي الهامات كما كان يعدهم سيّدهم الشهيد الأقدس. هؤلاء لا يمكن معاقبتهم عبر هضم حقّهم الميثاقي والقانوني، ناهيك عن مهاترة نزع سلاحهم،  ولا سيّما بعد أن أثبتت الأيام والليالي والميدان أنّ المقاومة هي لزوم ما يلزم، على قاعدة أنّ المقاومة باقية ... ما بقي الاحتلال.

هؤلاء لا يمكن معاقبتهم عبر هضم حقّهم الميثاقي والقانوني، ناهيك عن مهاترة نزع سلاحهم، لاسيّما بعد أن أثبتت الأيام والليالي والميدان أنّ المقاومة هي لزوم ما يلزم، على قاعدة أنّ المقاومة باقية، ما بقي الإحتلال ... حتى ولو بالصدور العارية.