دبلوماسية العلوم بين الاحتكار والتصدير
وفي يومنا ما زال التعاون العلمي الاستخباراتي السري لفك الشفرات وتبادل المعلومات والرسائل ساري المفعول بين الدول.
إنّ تصدير العلوم والابتكارات يعد من الموضوعات الجدلية التاريخية القديمة، بين تيار يدعو إلى الحفاظ على ممتلكات العقول العلمية في خزانات الأمن القومي للدول لكونه يمثل ثروتها غير المادية، وبين تيار آخر يدعم تصدير تلك الأفكار والبحوث إلى خارج الحدود، بحثاً عن مكانة أو رغبة بالسيطرة، أو صورة دولية يسعى البعض إلى تحسينها، وربما قد أعاد تحدي الوباء هذا الجدل إلى الصدارة.
وبغض النظر عن نيات الدول في الخوض بالدبلوماسية العلمية وأهدافها، وبحكم تواجدي في مدريد لاحظت أنّ ثمة إصراراً من قبل مملكة إسبانيا، عبر استراتيجيات سياستها الخارجية على تصدير الدبلوماسية العلمية إلى العالم، حيث تعاونت وزارة الشؤون الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون مع وزارة العلوم والابتكار على إطلاق النسخة السابعة لـ "مؤتمر دبلوماسية العلوم والتكنولوجيا والابتكار" في شهر كانون الأول/ديسمبر 2022 الماضي، لمناقشة الدور الحاسم للدبلوماسية العلمية في العلاقات الدولية، وأهمية العمل الخارجي فيما يتعلق بتوظيف العلوم والتكنولوجيا لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية مثل الأوبئة، وانعدام الأمن الغذائي، وتغيّر المناخ، سعياً منها في تعزيز الدبلوماسية العلمية وأدواتها لفتح قنوات الاتصال، ونشر المبادرات ذات الصلة بالبحث والتطوير والابتكار، ولتميّز العلوم الإسبانية في الخارج، فما الهدف من إقامة إسبانيا لسبع نسخ من مؤتمرات الدبلوماسية العلمية؟.
وفقاً لنظريات العلاقات الدولية فإن الدول تبحث عن مصالحها الوطنية، وتسعى إلى تحقيق تلك الأهداف في سياساتها الخارجية، عبر أدواتها المتعددة سعياً لفرض إراداتها وتفوقها العلمي والعسكري والاقتصادي، ولتعزيز مكانتها الدولية، الأمر الذي يحتم فيه بلا جدال التنافس والصراع، كما تعبر عنه مقولة هوبز إن "الجميع يحارب ضد الجميع".
وأمام تيار الأنانية الدولية، قد يصبح احتكار العلوم والتكنولوجيا هدفاً أساسياً في ممارسات الدول، حتى إن الاحتكار عدّ من استراتيجيات الأمن القومي، فضلاً عن أنّ الحربين العالميتين أظهرتا أن البحث والتعاون العلمي السري كان له دور حاسم في مسارات الحروب وقلب معادلتها، من خلال استخدام الأسلحة الجديدة في ساحات المعارك مثل الدبابة لأول مرة، والغازات السامة، والصواريخ الذكية، وأسلحة الدمار الشامل، حيث إن التعاون العلمي السري بين الدول الثلاث، الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وكندا، على تصنيع القنبلة الذرية وإلقائها على هيروشيما عام 1945، وكذلك التعاون على فك شفرة انيجما، قد قلّص زمن الحرب العالمية الثانية بل غيّر نتيجتها لصالح الحلفاء.
وفي يومنا ما زال التعاون العلمي الاستخباراتي السري لفك الشفرات وتبادل المعلومات والرسائل ساري المفعول بين الدول. على سبيل المثال، "تحالف العيون الخمسة" حيث تتشارك دول (الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا ونيوزلندا والمملكة المتحدة وكندا) المعلومات الاستخباراتية والذي أنشئ سابقاً أيام الحرب الباردة لمراقبة الاتحاد السوفياتي آنذاك، لكن تم تحديث مهمته في عصرنا الراهن ليراقب التنين الآسيوي الصيني.
في أجواء يشوبها التنافس الدولي وفقدان الثقة، يجري تبادل الاتهامات باحتكار العلوم والمعرفة والتكنولوجيا لغايات اقتصادية وسياسية بغية التحكم بالمستقبل، حيث اتهم الغرب الصين بسعيها إلى الهيمنة على تكنولوجيا المستقبل وفق "معايير الصين 2035". وبهذا الخصوص صدر تقرير عن صحيفة وول ستريت جورنال عام 2021، حمل عنوان "من المصابيح إلى الجيل الخامس، الصين تحارب الغرب من أجل التحكم بمعايير التكنولوجيا الحيوية"، متهماً الصين بالسيطرة على التكنولوجيا لغرض جني الأرباح والتفوق على الغرب.
ويبدو أننا بعد أن شهدنا في تاريخ الدبلوماسية العالمية المرور بعصر الدبلوماسية السرية وصولاً إلى الدبلوماسية العلنية، قد نحتاج إلى مثل هذه الدعوات ومأسستها لنصل إلى عصر العلم المفتوح والعلني. وهذه دعوة حثت عليها بعض الوكالات الأممية لإتاحة البحوث العلمية للجميع لأن المعارك المقبلة مع المناخ والأوبئة والأمن السيبراني ستفرض وقوف الجميع مع الجميع، على الرغم من صعوبة صياغة صك دولي لرسم رؤية متماسكة للعلم المفتوح، وضرورة عدم التعامل مع فوائد العلم كمنتج تجاري بحت مخصص للدول الغنية لأن الضرر سينال الجميع.
وعليه أعتقد أن مقولة هوبز تعيش التحدي والمراجعة رغم أنها حقيقة مرّة، لأن الجميع يساعد الجميع إذ ثمة بوادر نشهدها اليوم في عالمنا المترابط والذي يعيش تنافساً قوياً، وتسابقاً لزيادة المنشورات والبحوث العلمية في المجلات والمنصات العالمية، ولكي تتصدر محركات البحث العلمي، في محاولة لتوظيف تفوقها العلمي كقوة ناعمة لتحسين صورة الدولة واستمالة اهتمام الدول وفتح قنوات الاتصال وترسيخ أشكال التعاون. وبذلك فإنّ الشعوب باتت تخدم بعضها من خلال الوصول المجاني والمتاح لما ينشره العلماء والباحثون، من أوراق بحثية وعلمية وحقائق ودراسات، بغض النظر عن جنسياتهم وانتماءاتهم وأيديولوجياتهم ودياناتهم، وفي النهاية فإن العلم يخدم الحياة البشرية ويساعد في المحافظة على الكوكب.
رغم فقدان الثقة لكن حافز الميزة العالمية للعلوم والبحوث يتيح العمل التضامني بين الدول، كما أن التعاون العلمي يستخدم بمثابة قناة اتصال عندما تكون العلاقات الدبلوماسية معطلة، ويضمن وجود إطار مناسب للقدرة التنافسية للشركات وقياداتها الدولية في سياق ما يسمى "الابتكار المفتوح"، من خلال استغلال الموارد والتعاون في مجال البحث والتطوير والابتكار مع أفضل الشركاء في العالم.
وهذا ما وضعته الخارجية الإسبانية في سياق أهدافها في موضوعات الدبلوماسية العلمية من أجل تعزيز صورة إسبانيا الحديثة والمتطورة، ولجذب الاستثمارات الأجنبية التي تخلق فرص عمل جيدة، ولتكون مركز استقطاب لجذب المواهب العلمية والتكنولوجية وزيادة الصادرات، وإنتاج البحوث العلمية، حيث تتركز أنشطتها بشكل رئيسي في دول أوروبا والدول الإيبرو أميركية ودول البحر المتوسط في إطار التعاون الثنائي.
في ظل اعتراف تقرير مؤتمر ميونخ للأمن في دورته الأخيرة بأن هناك عجزاً جماعياً عالمياً يقابل تلك التحديات والتهديدات العالية ضمن تقريره المعنون "التغلب على العجز"، حينما وصف بعض الدول والمجتمعات بأنها تعاني شعوراً جماعياً بالعجز أمام
تلك التحديات. فهل ينهض الأبناء بالمهمة التي تقوم على دبلوماسية العلم المفتوحة والمتاحة كما فعل آباؤنا الأوائل، حيث بدأ موضوع تصدير العلوم مع ولادة الدبلوماسيّة العلميّة في العراق، فإنّ إسهامات حضارة بلاد الرافدين في العلوم والمعارف والابتكارات التي وثّقتها المدونات والألواح السومريّة شكّلت مصدراً حضارياً للحضارات الأخرى، والتي انتقلت إلى أوروبا، حيث كانت إسبانيا وإيطاليا الجسور الحضاريّة ما بين العرب وأوروبا.
وعلى دعائم هذا الجسر، نقلت الدبلوماسيّة العلميّة من حواضن المعرفة العربيّة (بغداد) وغيرها إلى تخوم أوروبا، وشرعت في حوار حضاري وعلمي ومعرفي أثرى العالم.
بين عالمنا المتشائم بعد احتكار الدول لدبلوماسية اللقاح الصحية وتجربته المريرة، وبين عالمنا المتفائل الذي يرى نهاية الوباء جاء بناء على دبلوماسية العلم وتصديره، ضرورة أن نناقش ذلك قبل فوات الأوان في صك دولي لنحافظ على ما تبقّى من العالم على قيد الحياة والتاريخ.