دا سيلفا صديق وضيف بكين الكبير.. ماذا عن ماكرون؟
زيارة مميّزة توجّها الزعيمان دا سيلفا وشي جين بينغ، بتوقيع عشرات الاتفاقيات، بما تتجاوز قيمتها عشرة مليارات دولار.
قبل مئتي عام، وتحديداً في 2 كانون الأول/ديسمبر 1823، أعلنت الولايات المتحدة ما دعي بـ "مبدأ مونرو"، والذي صاغت من خلاله خيوطها العنكبوتية للتفرّد بسيطرتها على دول القارة اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، تحت عنوان ضمان عدم تدخّل الاستعمار الأوروبي في دول الأميركيتين، وحماية استقلالها من التدخّل الأوروبي، ومنع النفوذ الأوروبي من التوسّع والتمدّد في حدودها.
وبذلك أصبحت دول أميركا اللاتينية والمنطقة الكاريبية، تُعرف باسم الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، نتيجة سيطرتها على اقتصادات تلك الدول كافة. وفي العام 1944 ومع إعلان 44 دولة حليفة للولايات المتحدة ارتباط قيمة عملاتها بقيمة الدولار الأميركي كبديل عن قيمة الذهب، أظهر الدولار الأميركي وجهه كعملة وسندات مهيمنة على الاقتصاد العالمي، وعلى التعاملات التجارية والمصرفية كافة.
والأهم من ذلك، استخدامه من قبلها كسلاح ضد أعداء سياستها الخارجية وهيمنتها العسكرية والاقتصادية والمالية، ولفرض وزارة خزانتها العقوبات على الدول والبنوك والشركات وحتى الأفراد، وكل من لا يستجيب لإرادتها، وكل من رفضوا استخدام الدولار كبديل عن عملاتهم الوطنية. وشملت عقوباتها عشرات الدول مثل كوبا وإيران وكوريا الشمالية وسوريا وفنزويلا ونيكاراغوا ومؤخّراً الصين وروسيا.
تعدّدت أشكال مقاومة الهيمنة الأميركية، وأظهرت عديد الدول رفضها الانصياع للعصا الأميركية. وعلى الرغم من محاولاتها لصبغ غالبية دول العالم باليمين المتطرّف ومنها دول القارة اللاتينية، إلّا أن استمرار نضال شعوبها بفقرائها وعمّالها ونقاباتها وبروحية قادتها التاريخيين، نجحت بإسقاط غالبية الحكومات اليمينية، وعادت الحكومات التقدمية والاشتراكية للظهور ثانيةً، كعودة لولا دا سيلفا رئيساً للبرازيل على حساب سقوط منافسه المتطرّف اليميني جايير بولسونارو.
لقد استعاد لولا داسيلفا حريته، وهو صاحب الـ 77 عاماً من النضال والإنجازات، والرؤى الواضحة، والمعروف بمقاومته ورفضه الدور الهدّام الذي تؤدّيه الولايات المتحدة تجاه بلاده والمنطقتين اللاتينية والكاريبية، وحول العالم. وفي تشرين الأول/أكتوبر فاز في الانتخابات البرازيلية متقدّماً على خصمه بولسونارو.
وانهالت عليه من غالبية قادة العالم برقيات التهنئة المرحّبة بعودته إلى سدّة الرئاسة البرازيلية، تصدّرتها تهنئة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي بشّر بفتح "صفحة جديدة" في تاريخ البرازيل، وأقحم نفسه صديقاً وشريكاً في الانتصار والفرح، مؤكداً من طرفه أنه والرئيس دا سيلفا معاً، سوف يوحّدان جهودهما لمواجهة العديد من التحديات المشتركة وتجديد روابط الصداقة بين بلديهما.
لكنّ زيارة الرئيس دا سيلفا إلى الصين أتت لتؤكّد أن أصدقاءه وشركاءه ليسوا في الغرب ولا في قصر الإليزيه، وقد لقي في الصين ترحيباً كبيراً وحارّاً وتقديراً خاصاً من الرئيس شي جين بينغ، الذي جالسه باحترامٍ وبودٍ كبيرين، بعيداً عن "طاولة" ماكرون المستديرة، ووصفه بـ "الصديق القديم والحميم".
وكما يُقال بأن "المكتوب من عنوانه"، فقد شكّلت زيارة الرئيس دا سيلفا إلى الصين بحد ذاتها صفعةً أولى للرئيس ماكرون الذي لا يزال يغرّد متباهياً بصور لقائه بالصحافيين في بكين، على عكس الصور الواردة من مدينة سيليستات بمنطقة الألزاس الفرنسية اليوم، في أول زيارة له بعد إصلاح نظام التقاعد.
ناهيك عن تأكيد الرئيس داسيلفا بأن الهدف من الزيارة هو "لتعزيز العلاقات الثنائية" بين البلدين، و"لرفع مستوى الشراكة الاستراتيجية، وتوسيع التدفّقات التجارية"، والعمل مع الصين على "تحقيق التوازن في الجغرافيا السياسية العالمية".
زيارة مميّزة توجّها الزعيمان دا سيلفا وشي جين بينغ، بتوقيع عشرات الاتفاقيات، بما تتجاوز قيمتها عشرة مليارات دولار، وبنظرتهما التفاؤلية المشتركة لانطلاقة نظامٍ عالمي جديد، وسط تبشير الرئيس دا سيلفا وربما وعيده بأزوف اللحظة التي يتعيّن فيها على دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) الاتفاق على التعامل بعملةٍ جديدة في الصفقات التجارية، لتكون بديلاً عن الدولار.
ومن خلال هذه التصريحات صاغ الرئيس البرازيلي المناضل صفعته الثانية للولايات المتحدة وأدواتها الغربية. كذلك أجرى اتصالاً هاتفياً عبر شبكة هاواوي للاتصالات التي تفرض عليها الولايات المتحدة أشد العقوبات، وأكد أنه "لا يمكن لأحد منع البرازيل من تحسين علاقاتها مع الصين".
كما انتقد دا سيلفا الولايات المتحدة الأميركية على تشجيعها للحرب في أوكرانيا، كذلك انتقد الدول الأوروبية التي "لا تقوم بما يكفي للتوصّل إلى حل سلمي للصراع". في حين نالت تصريحاته تقدير وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي وصل إلى البرازيل الأسبوع الماضي من خلال جولة يقوم بها في أميركا اللاتينية، مؤكداً امتنان موسكو "لأصدقائها البرازيليين ولفهمهم الواضح لبناء موقفهم".
في حين رفض البيت الأبيض اتهامات دا سيلفا حول الترويج الأميركي للحرب، وقد وصف موقفه بالـ "مضلل"، في حين اعتبر جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي أن تصريحات الرئيس البرازيلي هي "ترويج للدعاية الروسية والصينية".
يمكن قراءة وتفهّم الاستياء والقلق الأميركيين من عودة الرئيس لولا دا سيلفا إلى سدة الحكم في البرازيل بعد مقارنته بسلفه بولسونارو الذي راهن على أن يكون صديقاً للغرب وعدواً للصين، والذي تعمّد إزعاج بكين بزيارته إلى تايوان، وبوقاحة تحذيره من أن استراتيجية الصين "لا تشتري في البرازيل بل تشتري البرازيل".
ناهيك عن إعجابه بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وتبنّيه مهاجمته للصين والترويج لروايات ترامب الإعلامية "الكورونا الصيني"، "العدو الصيني"، متجاهلاً كون الصين كانت تشكّل أهم شريك تجاري للبرازيل منذ عام 2009. كذلك مشاركته في حصار ترامب لفنزويلا، وتهجّمه على الرئيس الأرجنتيني ألبرت فرنانديز بعد فوزه بالانتخابات من خلال محاولاته الدؤوب لإرضاء واشنطن التي تراقب هزيمتها واليمين في القارة اللاتينية.
في ظل التحديات والمتغيّرات الدولية، الحقائق الجيوسياسية الحالية، وخصوصاً الصراع الصيني-الأميركي، والحرب الأميركية الغربية على روسيا في أوكرانيا، من المهم للبرازيل أن يعود الرئيس دا سيلفا لقيادتها، وهو الحكيم والخبير والمخضرم على صعيد القارة اللاتينية، والذي ما زال يُثبت أنه القادر على المشاركة في التصدّي للهيمنة الأميركية، وجعل العالم أكثر استقراراً وأمناً، وبتثبيت وتعزيز مكانة بلاده الاقتصادية والسياسية والثقافية مع دول الجوار، وأهمية الدور البرازيلي السلمي والاقتصادي على الساحة الدولية.