ثبات المقاومة يصنع الانتصار وما كان يُعتقد أنه مستحيل
من الواضح أن الولايات المتحدة باتت مقتنعة باستحالة القضاء على حماس وفصائل المقاومة، وأن فشل نتنياهو وقادة الكيان الغاصب بات حديث الساسة والإعلاميين والكتاب والمحللين.
على مرأى ومسمع من العالم، تكلل الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى بالفشل الذريع. وقد فُضحت فيه همجية الكيان الإسرائيلي وحقيقته، وسقطت روايته التي نسجتها عقول وخدع وأكاذيب المفكرين اليهود والصهاينة الأميركيين والغربيين والإسرائيليين عبر عشرات العقود، على الرغم من التأييد الفوري واللامحدود الذي أظهره الرئيس الأميركي وأقرانه في عشرات الدول والحكومات الغربية، ودعمهم المشين لآلة القتل الإسرائيلية و"حق إسرائيل" في الدفاع عن نفسها.
أصرّ الإرهابي نتنياهو وفريقه الحكومي على تحقيق جملة أهدافٍ في آن واحد، ولكن سرعان ما تكشفت خيالاتهم واستحالة تحقيق أهدافهم بعدما دحضتها المقاومة الفلسطينية بثباتها وقدرتها وبصمود أهالي غزة، على الرغم من الأذى الكبير والظلم والموت والتهجير والتجويع والحصار الذي يتعرضون له.
هذا العدوان تخطى يومه الثمانين وبدا بلا نهاية، مع استمرار وضع غزة على مذبح المصالح والخلافات الأميركية – الإسرائيلية من جهة، وخلافات الحكومة والقادة الإسرائيليين من جهةٍ أخرى، نتيجة الفشل والهزيمة وخشية نتنياهو من إيقاف العدوان من دون تحقيق أي هدف، واضطراره إلى الرضوخ لشروط المقاومة، وتمرير قرار مجلس الأمن بشأن إدخال المساعدات الإنسانية من دون تدخلٍ إسرائيلي، ومن دون فيتو أو عرقلةٍ أميركية – غربية.
أكثر من 80 يوماً كان كافياً لقادة الفكر العسكري والأمن القومي الإسرائيلي للتوصل إلى أن "إسرائيل بحاجة إلى طرح فكرة سياسية إستراتيجية واضحة تدعم ممارساتها العسكرية الهمجية الإجرامية الطائشة التي أدخلتها في حال عدم اليقين السياسي الذي أعاد التصويب على محددات شرعيتها ككيان احتلالي، وليس باعتبارها "دولة" لطالما أيد العالم فكرة نشوئها واستمرارها على أرض فلسطين.
إنَّ إعلان حكومة نتنياهو بدعمٍ أميركي وغربي، وبعضه عربي مستتر، ضرورة القضاء التام على حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ينسف اتفاق عام 1995 الذي انتزع بموجبه الفلسطينيون حق الحكم الذاتي للضفة الغربية وغزة، ويمنح نتنياهو فرصة طرح عودة السيطرة الأمنية الإسرائيلية على القطاع الخالي من المقاومة منزوع السلاح وإخضاعه إلى الأبد، بالتوازي مع عدم ترحيبه بقوات حفظ سلامٍ دولية في مقابل انسحاب قواته العسكرية من كامل قطاع غزة.
وما بين إطلاق العنان الإسرائيلي للسير بمخططات التهجير، وما يتعلق بقناة بن غوريون، وخطط الشمال لإبعاد حزب الله اللبناني عن الحدود، وما بين واقع الهزيمة العسكرية التي مني بها الإسرائيليون، وفشل الاجتياح والتوغل البري، وارتفاع عدد الجنود والضباط الإسرائيليين القتلى والأسرى، ومقتل أكثر من 1100 إسرائيلي، وارتفاع حجم الخسائر العسكرية بالدبابات والآليات العسكرية، وتضرر الاقتصاد الإسرائيلي، وتفاقم حالة الهجرة العكسية، ناهيك بانهيار الحالة النفسية للمستوطنين، بدا الإرباك الواضح على الفريق الأميركي القائد والداعم للعدوان والفريق الحكومي الإسرائيلي، وتأكد للقاصي والداني أن "إسرائيل" تسعى إلى تنفيذ كل ما من شأنه أن يؤدي إلى فرض حال الدولة الواحدة اليهودية بمساعدة الولايات المتحدة.
هذا الأمر يدفعنا إلى السؤال عن حقيقة الموقف الأميركي من حل الدولتين الذي تنادي به واشنطن في العلن، وتراهن على نسفه في غرفها السوداء بالاشتراك مع قادة العدو الإسرائيلي الأكثر تطرفاً ووحشيةً، الأمر الذي ينسحب أيضاً على نتنياهو الذي لطالما تشدّق مراراً وتكراراً على مدى عقد ونصف عقد بأنه "على استعداد لإبرام اتفاق سلام مع الفلسطينيين"، لكنه بحسب ادعاءاته لم يجد الشريك القانوني المناسب، في الوقت الذي لم يتحدث أو يتصرف بجدية عن الدولة الفلسطينية، وعمل على إضعاف وتقويض السلطة الفلسطينية وتغذية الانقسامات الفلسطينية.
إن نسف حل الدولتين العادل المستند أساساً إلى الحقوق الفلسطينية يشكل هدفاً رئيسياً للبيت الأبيض وتل أبيب. ومن أجله، تم اعتماد أقصى درجات الهمجية والإبادة الاجتماعية والسياسية الكاملة، وجعل فلسطين -غزة والضفة الغربية- أراضي غير صالحة لحياة الفلسطينيين، وأجبرهم على إخلائها قتلاً أو تهجيراً أو تسفيراً قسرياً، وجدد النكبة والنزوح الجماعي للفلسطينيين من أراضيهم واستبدلهم لاحقاً بقطعان المستوطنين. هذا المخطط بحد ذاته دفعهم نحو تعمد استهداف المنازل والبنى التحتية والأطفال تحديداً، الذين سيشكلون يوماً أساس المجتمع الفلسطيني المستقبلي السياسي والعسكري المقاوم.
لذلك، خصّهم مجرمو البيت الأبيض والعدو الإسرائيلي باستراتيجية الإبادة الجماعية، وباستخدام قنابل الفوسفور الأبيض المحرمة دولياً، وبأطنان الصواريخ والقذائف والقنابل الحاقدة والعشوائية، الأمر الذي يفسر ارتفاع عدد الشهداء والدمار الكبير على كامل مساحة القطاع، بما سمح لنتنياهو في 10 تشرين الثاني/نوفمبر بالحديث عن "ضرورة السيطرة الإسرائيلية الكاملة على القطاع"، والاستحواذ على الإدارة الأمنية في غزة "منزوعة السلاح".
في وقتٍ يرى ويدرك العالم الأهداف البعيدة للعدوان الوحشي، وسط قول الأمين العام للأمم المتحدة في مجلس الأمن: "لا يوجد مكان آمن في غزة"، لا يتحد العالم في وجه آلة القتل الإسرائيلية – الأميركية، رغم مهام ووظائف وصلاحيات مجلس الأمن لحماية المدنيين وإنهاء الاحتلال.
وفي حين تستمر قوات الاحتلال الإسرائيلي في عدوانها على وقع المبادرات والوساطة المصرية الأميركية وغيرها، يبقى من المستغرب أن تؤدي واشنطن دوراً مزدوجاً في القتل صباحاً والوساطة ليلاً.
ومع ذلك، يبدو أن الوساطة المصرية لن تحظى بموافقة المقاومة على صعيد عملية تبادل الأسرى والبعد الميداني والانسحاب الإسرائيلي والبعد السياسي لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب، إذ عبرت حماس ومختلف قادة المقاومة الفلسطينية عن عدم قبولهم بمراحل متتالية مجزأة للهدنة بالتوازي مع إطلاق أعداد من الأسرى، والقبول فقط بهدنة دائمة مبنية على وقف العدوان نهائياً، وانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة، وإطلاق الأسرى وفق قاعدة الجميع مقابل الجميع.
أما عن البعد السياسي، فتعتبره المقاومة شأناً فلسطينياً بحتاً، وترى أن الشعب الفلسطيني وحده من يقرر اختيار سلطته السياسية والإدارية والأمنية عبر صناديق الانتخابات.
تبدو ثوابت حماس وفصائل المقاومة مُحرجة للولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي ولما يسمى الديمقراطيات الليبرالية الغربية، فهم من جهة يتشدوقون بها ليلاً نهاراً، لكنهم لن يقبلوها بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين يلتفون كالبيان المرصوص حول حماس وكل فصائل المقاومة.
من الواضح أن الولايات المتحدة باتت مقتنعة باستحالة القضاء على حماس وفصائل المقاومة، وأن فشل نتنياهو وقادة الكيان الغاصب بات حديث الساسة والإعلاميين والكتاب والمحللين، حتى الإسرائيليين منهم، وبات على إدارة بايدن البوح بما تنوي القيام به.
وبناء عليه، جاءت كلمات الصحافي الأميركي الشهير توماس فريدمان كمن يقدم النصيحة وخارطة الطريق في آنٍ، إذ كتب: "حان الوقت كي تخبر الولايات المتحدة إسرائيل كيف تعلن النصر في غزة وتعود إلى ديارها، لأن نتنياهو أصبح عديم الفائدة ولا يصلح زعيماً، فيما لا يزال يخوض حرباً من دون هدف سياسي محدد بوضوح أو جدول زمني أو آلية للفوز والسلام".
لا شك في أن فريدمان يحاول تقديم طوق النجاة لبلاده، لكنه يدرك تماماً أنها لن تستطيع التنصل والتهرب من حصتها في الهزيمة، فالحق الفلسطيني أقوى من الغطرسة والجبروت الأميركيين، وثبات المقاومة يصنع الانتصار وما كان يُعتقد بالأمس أنه مستحيل.