"تسوركوف".. صدع آخر في جدار التجسس الإسرائيلي
إذا كانت فضيحة الباحثة الجاسوسة إليزابيث تسوركوف أربكت الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية، فإنها، في واقع الحال، مثّلت صدعاً جديداً آخر في جدار التجسس الإسرائيلي على العراق تحديداً، وعلى المنطقة عموماً.
كان من الطبيعي جداً أن تشغل قضية اختطاف (الباحثة - الجاسوسة) الإسرائيلية الروسية، إليزابيث تسوركوف، من أحد المقاهي في العاصمة العراقية بغداد، قبل نحو أربعة شهور، كثيراً من اللغط والجدل والسجال بشأن حقيقة مهمتها في العراق، والجهات التي يمكن أن تكون وراء اختطافها، وردة الفعل الإسرائيلية، التي جاءت بعد صمت دام عدة أشهر، وحجم تداعيات تلك القضية وتفاعلاتها، ولا سيما أن أطرافاً إقليمية ودولية متعدّدة قد تكون معنية، بصورة أو بأخرى، بفضيحة تسوركوف.
لعل الجزء الأكبر من اللغط والجدل والسجال تمحور حول الهوية المهنية للمختطَفة تسوركوف، فهناك من قال - وتحديداً في "تل أبيب" - إنها باحثة أكاديمية عملت في عدد من مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في أوقات متعددة، كمعهد أبحاث السياسة الخارجية في مدينة فيلادلفيا الاميركية، ومنتدى التفكير الإقليمي الإسرائيلي في القدس المحتلة، وإنها جاءت إلى العراق من أجل إكمال أطروحة دكتوراه، في جامعة برينستون الأميركية.
بيد أن مجمل المعطيات والمعلومات والحقائق الظاهرة على السطح، تؤكد أن تلك السيدة كانت تمارس في الواقع أعمالاً ومهمّات أمنية استخبارية تحت غطاء البحث الأكاديمي، مع العلم بأنه يتضح جلياً من خلال تحركاتها ومنشوراتها وتصريحاتها طغيان الطابع السياسي على الجانب الأكاديمي البحثي.
فهي تنقلت خلال عدة اعوام في بلدان ومناطق ملتهبة بالصراعات والأوضاع المضطربة. وتحت غطاء العمل البحثي، كانت تجمع المعلومات وتبني العلاقات وتؤسس الشبكات وتسوق المشاكل والفتن والأزمات. وحتى معهد أبحاث السياسة الخارجية الاميركي ومنتدى التفكير الإقليمي فهما، في واقع الأمر، واجهتان وأداتان لدوائر الـ(CIA) والموساد.
النقطة الأخطر تتمثل بأن تسوركوف هي مجندة سابقة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، واشتركت في حرب تموز/يوليو 2006 ضد لبنان، وتحديداً ضد حزب الله. ودوماً، كانت تتبجح في منشوراتها بدورها في مواجهة أعداء "إسرائيل"، ناهيك بعدم التحرج أو التردد في تأييدها أعمال العنف والفوضى والاضطراب في سوريا والعراق واليمن ودول أخرى، وتهجمها المستمر على الحركات الفلسطينية وحزب الله اللبناني وفصائل المقاومة في العراق. ولأنه لم يكن في إمكانها التحرك بحرية ومرونة وبعيداً عن العراقيل والمعوّقات بواسطة وثائقها الإسرائيلية، لذا فإنها استفادت من جواز سفرها الروسي باعتبارها من أصول روسية، وتحمل جنسية ذلك البلد. وبحكم علاقات موسكو الإيجابية بأطراف معادية للولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل"، مثل إيران وسوريا، فإن تسوركوف، عبر جوازها الروسي، صالت وجالت هنا وهناك مطمئنة وواثقة!
النقطة الأخرى، التي يجب التوقف عندها، هي أن المتعارف عليه، حينما يريد باحث أكاديمي أن يزور بلداً ما لأغراض تتعلق بمشروعه البحثي، لا بد من أن يتم ذلك بالتنسيق مع قنوات رسمية بين الجهة التي يدرس فيها، كما هي الحال مع جامعة برينستون، التي قيل إن تسوركوف تبحث لحسابها، وبين الجهات الرسمية العراقية، كوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، أو أي وزارة أخرى أو جامعة ما، فضلاً عن وجوب تحديد تحركاتها وفقاً لطبيعة مهمتها البحثية الأكاديمية. وهذا في الواقع لم يحدث، وإنما هي تحركت وتصرفت بعقلية استخبارية تجسسية مريبة.
إلى جانب ذلك، فإن من أثار موضوع اختطافها واختفائها هو "إسرائيل" ذاتها، من خلال أرفع المستويات فيها، إذ إن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي تحدث عن الموضوع، عبر بيان له بعد مرور أربعة أشهر على الاختفاء، قائلاً "إن تسوركوف لا تزال في قيد الحياة، ومحتجزة لدى كتائب حزب الله. وإنها أكاديمية دخلت العراق في آذار/مارس المنصرم عبر جواز سفرها الروسي وبمبادرة منها، من أجل أطروحة الدكتوراه والبحث الأكاديمي لجامعة برينستون في الولايات المتحدة الاميركية".
وأكدت كتائب حزب الله، التي وجّهت "تل أبيب" أصابع الاتهام إليها باختطاف تسوركوف، من خلال تصريحات للمتحدث باسمها، أبو علي العسكري، "أن اعتراف نتنياهو بأسر إسرائيلية في العراق يُعَدّ مؤشراً خطيراً للغاية، ويجب التوقف عنده".
واللافت هنا أنه لا الحكومة الروسية أثارت الأمر انطلاقاً من كون تسوركوف روسية الأصل، ولا جامعة برينستون، باعتبار أن المختَطَفة مبتعَثة من جانبها، بل إن "تل أبيب" حركت كل قنواتها السرية والخاصة مباشرة بعد الاختفاء والاختطاف، وعملت بصمت وهدوء، وحاولت جاهدة لملمة الموضوع، لكنها لم تفلح في ذلك، لتجد نفسها في النهاية مضطرة إلى التصريح العلني المضلِّل من أجل خلط الأوراق وقلب الحقائق. وفي هذا الوقت، أصدر المجلس الإقليمي الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية بياناً أكد فيه أن تسوركوف تعيش عملياً منذ فترة طويلة في مستوطنة كفر إلداد قرب بيت لحم، في التجمع المعروف إسرائيلياً بـ"غوش عتصيون".
وإذا كانت فضيحة الباحثة الجاسوسة إليزابيث تسوركوف أربكت الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية، فإنها، في واقع الحال، مثّلت صدعاً جديداً آخر في جدار التجسس الإسرائيلي على العراق تحديداً، وعلى المنطقة عموماً.
فمسيرة التجسس الإسرائيلي اتخذت أشكالاً وصوراً ومظاهرَ متعددة على امتداد عقود من الزمن، وكانت تتم عبر واجهات ثقافية واجتماعية وإعلامية متعددة، وغالباً ما كانت ترافقها عمليات تصفيات جسدية لكوادر ونخب علمية ومهنية نوعية، كما هي الحال مع الاستهداف والتصفيات للعلماء النوويين والطيارين بعد الغزو والاحتلال الأميركيَّين للعراق في ربيع عام 2003.
ويشير بعض الدراسات والأبحاث، التي صدرت بعد الاحتلال الأميركي، إلى أن "جهاز الموساد الإسرائيلي استهدف البنى العلمية والبشرية والاقتصادية والاجتماعية، التي قامت عليها الدولة العراقية السابقة لتدميرها، ومنها الاستهداف والاغتيال للعلماء العراقيين، الذين وردت أسماؤهم في قوائم مفتشي الأسلحة الدوليين. وأكد جنرال فرنسي متقاعد للقناة الخامسة الفرنسية (في 8/4/2004) أن هناك أكثر من (150) جندياً صهيونياً من وحدات الكوماندوس الصهيونية دخلت العراق، وكُلِّفت مهمة الاغتيال والتصفية للعلماء العراقيين، الذين كانوا وراء برامج التسلّح العراقية، وقُدّمت أسماؤهم إلى لجنة مفتشي الأسلحة الدولية برئاسة هانز بليكس، وأن مخطط الاغتيال هذا تمَّ وضعه من جانب مسؤولين أميركيين وصهاينة".
ومثلما يقول عدد من المراقبين، فإن "دخول الجاسوسة الإسرائيلية تسوركوف للعراق ليس المحاولة الأولى لدخول إسرائيليين له، لكن هذا الدخول لم يكن دخولاً مباشراً أو علنياً، وإنما اتخذ أشكالاً متعددة، ثقافية وسياسية. وبالتالي، فإن الوجود الإسرائيلي الاستخباري التجسسي لم ينقطع، وتحديداً بعد عام 2003. وفي أغلبية الأحيان كان الوجود الأميركي في العراق غطاءً له".
فالاحتلال الأميركي بعد إطاحة نظام صدام في ربيع عام 2003، وضعف منظومات الحكم، والتناحر السياسي، والإرهاب، والمشاكل والأزمات الاقتصادية والحياتية، واتساع نطاق ثورة المعلوماتية والاتصال، كانت كلها عوامل ساهمت، إلى حد كبير، في تمكين "إسرائيل" من الحصول على مواطئ قدم في كل مفاصل الحياة العراقية، من دون أن تكون هناك مخاطر وتبعات كبيرة.
وربما كانت بعض، أو أغلبية بوابات التطبيع الإسرائيلي مع العراق هي ذاتها قنوات التجسس عليه. وكشفت فضيحة برنامج "بيغاسوس" التجسسي الإسرائيلي التي تفجَّرت قبل عامين، حقائق مهمة وخطيرة للغاية حيال أطراف وشخصيات عربية كثيرة، كان العراق جزءاً منها، إذ إن أغلبية التقارير تحدّثت حينها عن إدراج رقم هاتف الرئيس العراقي السابق برهم صالح في قائمة من خمسين ألف اسم، مستهدَفة ببرنامج "بيغاسوس"، إلى جانب قائمة طويلة من أسماء أخرى، بعضها لا يُصنَّف في خانة العداء والخصومة الواضحين مع حلفاء "إسرائيل" وأصدقائها، ما لم يكن مع "إسرائيل" ذاتها.
وفي الوقت الّذي كانت عدة وقائع وأحداث تؤشر على أن "تل أبيب" تعمل جاهدة على استغلال الواقع السياسي في إقليم كردستان في شمالي العراق، والذي يتمتع بوضع شبه مستقل عن الحكومة الاتحادية في بغداد، في إطار النظام الفيدرالي، لتهيئة الأرضيات وتمهيدها للتطبيع، فإنها استخدمته - أي الإقليم - بطريقة ما، ليكون محطة متقدمة لها للوصول إلى العمق العراقي في الوسط والجنوب، علماً بأنه قد تكون هناك محطات أخرى أكثر عمقاً. وربما كانت السفارة الأميركية في بغداد وسفارات أخرى من بين أهم وأخطر محطات التجسس الإسرائيلية ضد العراق، وأغلبية الظن أن الجاسوسة المختطَفة كانت على تواصل مع سفارة واشنطن في بغداد.
ولعل "إسرائيل" تدرك صعوبة اختراق العراق من خلال بوابة التطبيع، ليس على الصعيد الشعبي فحسب، وإنما على الصعيد السياسي أيضاً. وقد تكون المواقف الرسمية العراقية الرافضة للتطبيع والمجرّمة له مصداقاً ومؤشراً واضحين على ذلك، وهذا ما يجعل أصحاب القرار ومخططي الاستراتيجيات بعيدة المدى في "تل أبيب" يفكرون ويسعون دوما لإيجاد مسالك وبوابات للنفاذ منها إلى الداخل العراقي، بيد أن السحر غالباً ما كان ينقلب على الساحر، كما يقولون، لتزداد وتتوسع الشروخ والتصدعات في جدار التجسس الإسرائيلي يوماً بعد آخر.