تساؤلات مصيرية عما تمّ التعتيم عليه في قرن
كثيرة الأسئلة التي تطرح ضرورة إعادة قراءة التاريخ بمنظور جديد، وبتجرّد، حيث يفترض أن توضع الحقائق في موضعها الصحيح.
منذ اندلاع حرب أوكرانيا 2022، بدأت تتكشف بعض المعطيات التي تخالف الكثير من حقائق ومفاهيم راجت خلال قرن، فاتحة المجال أمام مروحة واسعة من تساؤلاتٍ تحتاج إلى بحث، وربما إعادة نظر تاريخية في مفاصل هامة من التاريخ العالمي.
في الصيف المنصرم، قام وفد من المركز الثقافي الروسي في بيروت، مع أصدقاء لبنانيين، بجولة على بقايا المدارس الروسية في مختلف المناطق اللبنانية، مطّلعين على أوضاعها، وفُهم من أوساط الوفد رغبة روسية باستعادة إنجازات روسية تحقّقت في زمنها، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
في ذلك الحين، نشرت روسيا عشرات المدارس المجانية لنشر التعليم ومكافحة الأمية، وكان الفضل للمدارس المذكورة في تطور الحالة العلمية لدى أجيال من اللبنانيين، والعرب، قبل إقفالها بقرار من السلطنة العثمانية التي دخلت في تحالف مع ألمانيا، بينما كانت روسيا تتحالف مع فرنسا وإنكلترا، وكانت المدارس الروسية تنتشر بتحفيز ودعم من "الجمعية الإمبراطورية الروسية الفلسطينية " التي أنشأتها روسيا، وكان مقرّها في القدس.
وإذا شئنا الاعتماد على المثل القائل: "خذوا أسرارهم من صغارهم"، أمكننا تعميم الرغبة الروسية الكامنة في زيارة الوفد، مع ما نشهده من صراع بدأ في أوكرانيا منذ العام 2014، وصولاً إلى اندلاعه حرباً ضروساً بين روسيا، وحلف "الناتو" في أوكرانيا، وفيه توجّهٌ روسيّ متمثل برغبة بوتين في استعادة مجد روسيا المفقود منذ اعتلاء الشيوعية سدّة السلطة في روسيا عقب انتصار الثورة البلشفية فيها عام 1917، مباشرة إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى.
تطورات الحرب الأوكرانية الراهنة، وما رافقها من تسريبات، ومعطيات، ومظاهر صراع، تدفع إلى إعادة قراءة التاريخ من ألفه إلى يائه في ما يتعلق بروسيا، ودورها التاريخي، والدور المرتقب لها مستقبلاً، والذي بدأت تتجلى بعض مظاهره خصوصاً في إنشاء تحالف "بريكس".
تطورات روسيا الراهنة تفرض إعادة قراءة تاريخ القياصرة الروس بمنظور جديد، فهل كانوا حقيقة بالسوء الذي وصفتهم به الثورة البلشفية؟ من المؤكّد أن المجتمع الروسي شهد حالات فقر واسع أسّست لاندلاع ثورة 1905، ثم الثورة البلشفية 1917، لكن الأسئلة المطروحة تتلخّص فيما إذا كان دور القياصرة محصوراً بهذا السوء؟ ألم يكن لأسرة رومانوف أي إيجابيات في بناء روسيا في عالم صعود الحداثة الغربية؟ ما الذي حققه بطرس الأكبر، ومن خَلَفَه من قياصرة؟
على الجهة المقابلة، هل كانت الثورة البلشفية مُنَزّهةً عن الارتباط بالغرب؟ هل كانت معادية حقاً للغرب الاستعماري؟ ما هي خلفيات الثورة؟ ما معنى انتصارها السريع على القيصرية في عشرة أيام، بينما استغرق نجاح الثورة الصينية للتحرر من الاستعمار ثلاثين عاماً من الصراع المرير؟
كثيرة الأسئلة التي تطرح ضرورة إعادة قراءة التاريخ بمنظور جديد، وبتجرّد، حيث يفترض أن توضع الحقائق في موضعها الصحيح. من هذه التساؤلات، على سبيل المثال لا الحصر، سبب خروج روسيا من اتفاقية تقسيم الشرق الأوسط، بينما كانت مُشارِكَةً في انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، ولماذا تركت تقرير مصير المنطقة، وتقسيمها، للفرنسيين والبريطانيين، وفي ذلك نتحدث عن اتفاقية سايكس-بيكو التي كان يفترض أن تكون ثلاثية بمشاركة روسية.
من الأسئلة أيضاً، كيفية نيل آل روتشيلد الصهاينة حق طبع الروبل الروسي لمدة مائة عام بدأت مع انتصار البلاشفة عام 1917، وانتهت عام 2017، عندما زار موفد من العائلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طارحاً تجديد العقد، بيد أن بوتين رفض، وأصدر قراراً بضرورة إخلاء آل روتشيلد روسيا، بحسب وسائل إعلام مقربة من السلطات الروسية.
من الأسئلة المتصاعدة الموقف المشابه لروسيا السوفياتية عقب الحرب العالمية الثانية التي تسببت فيها روسيا تحديداً بهزيمة النازية، فإذا بها تخلي الساحة العالمية للموفد الجديد على الساحة العالمية، أي الولايات المتحدة الأميركية إذ تحولّ الصراع بينهما إلى صراع سمّي بالحرب الباردة، بينما صراع أوكرانيا اليوم، صراع حامي الوطيس، ومفتوح على يد بوتين غير المتردّد مهما بلغ الصراع من مصير.
انسحاب روسيا السوفياتية في الحرب العالمية الثانية محسوب على الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين الذي قاد المعركة ضد ألمانيا الهتلرية، وانتصر فيها، لكنّ ستالين سبق له أن أسّس دولة لليهود في روسيا هي دولة "بيروبيجان" ثلاثينيات القرن الماضي، وكان أول من اعترف بقيام "دولة" يهودية في فلسطين، ورفدها باليهود الروس، العدد الأكبر الذي دعم هذه "الدولة" عقب نكبة 1948، بينما كان كارل ماركس، اليهوديّ الهويّة، هو أوّل من حدّد دور اليهود، ونزعاتهم الرّبحية، في تنامي وتشكيل العالم الرأسمالي الغربي بمواصفاته المعروفة.
والمستغرب في السنوات القليلة الماضية، بروز وقائع كانت شبه مغمورة، إلا على البحاثة الأكاديميين، وكأنّه كان ممنوعاً معرفتها قبل ذلك، فقد غابت في أدبيات اليسار العربي، وخصوصاً في أدبيات الأحزاب والمنظّمات الشيوعية العربية، اتفاقية برتون-وودز التي جعلت الدولار الأميركي مقياساً لقيمة بقية عملات العالم.
السؤال المطروح: هل كان مطلوباً التعتيم على هذه الاتفاقية على صعيد الجمهور، كما المناضلين الذين خاضوا صراعات ضد السلطات المحلية كونها سلطات صديقة، أو تابعة، أو حليفة للغرب الأميركي؟ كذلك على حقيقة دور ستالين في تعزيز الوضع اليهودي إن في روسيا، أم في فلسطين؟
يلي تلك الخطوات التي اعتمدت زمن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون مطلع السبعينيات، حيث أغرت الولايات المتحدة الأميركية شعوب العالم ببيعها ما لدى الحكومات من ذهب في مقابل الدولار الأميركي، فتحوّل الدولار إلى غطاء احتياطي لعملات العالم بديلاً من الذهب، وبنتيجة ذلك خضع العالم للدولار الأميركي، ولا يزال. هذه المعطيات لم تكن متوافرة في الأدبيات الحزبية الموالية للاتحاد السوفياتي، ولا للرأي العام قبل الحرب الأوكرانية.
وفي مقارنة بين حدّة الصراع الذي يخوضه حلف روسيا-الصين ضد الغرب، وحدّته زمن الاتحاد السوفياتي، ثمة من يطرح تساؤلات عن دور السوفيات في الحفاظ على سقف "بارد" محدّد للصراع مع الغرب، وفي إبعاد روسيا القيصرية عن الساحة الدولية إفساحاً في المجال لتمدد الاستعمار الغربي على العالم.
أسئلة مطروحة للبحث، ليست اتهامات، لكنّ الشكّ موصِلٌ إلى اليقين، والأسئلة تفرض المزيد من التعمّق والبحث، وإعادة فلش أوراق التاريخ.