انقلابات أفريقيا... هل تحيي فكرة "الجامعة" الأفريقية؟
لم يعد الأفارقة ينظرون إلى واقعهم بالمنظار نفسه الذي كان ينظر به أسلافهم القريبون، فقد تغيّرت نظرتهم إلى تاريخهم وشرعوا في استعادة الذاكرة الوطنية والقومية.
يقرأ الأوروبيون، وخاصة الفرنسيّين، توالي الانقلابات في القارة الأفريقية في الفترات الأخيرة على أنها جزء من دينامية طبيعية اعتادت عليها البلدان الأفريقية طيلة عقود، ويشبّهون ما يحصل فيها بما يحصل في أميركا اللاتينية، أي بوصف تلك الانقلابات انعكاساً لثقافة انقسامية هشّة في القارة، وترجمة لصراع المصالح داخل أجهزة الجيش أو بين المكوّنات القبلية والإثنية، ولكنهم لا يذهبون بالتحليل إلى أبعد من النموذج التفسيري الذي أنتجه العقل الأوروبي لقراءة ما يحصل في البلدان الأفريقية، لأن هذا العقل لا يقبل مواجهة الحقائق التي قد تصدمه، فالحقيقة عدو المصلحة.
ولكن الأفارقة لم يعودوا ينظرون إلى واقعهم بالمنظار نفسه الذي كان ينظر به أسلافهم القريبون، فقد تغيّرت نظرتهم إلى تاريخهم وشرعوا في استعادة الذاكرة الوطنية والقومية، وباتوا يدركون حجم الأخطاء التي تراكمت في العقود الماضية، وفائض القيمة السياسي الكبير الذي كانوا يدفعونه إلى المحتل الأوروبي السابق.
ويشعر بعض المحلّلين الأوروبيين والفرنسيين بأن الوجهة السياسية التي تتخذها الانقلابات الأخيرة في القارة مختلفة تماماً عن وجهات الانقلابات التقليدية في حقبة ما بعد الستينيات من القرن الماضي، وهو ما يجعل بعض هؤلاء يطالبون بالتخلي عن "منطق فوكار" في التعامل مع الشعوب الأفريقية اليوم، لأنّ عَمْراً شبّ عن الطوق.
وتشير تلك العبارة إلى اسم رجل الأعمال والسياسي الفرنسي الديغولي جاك فوكار (1913-1997)، الذي أدّى الدور الرئيسي في هندسة السياسة الفرنسية في أفريقيا، أو ما يسمى "أفريقيا الفرنسية"، أي التخلي عن النزعة الأبوية والاستعمارية التقليدية التي كانت تعتمد التحكّم والسلطوية والإملاءات تجاه الأفارقة.
الحقيقة الساطعة في هذه الانقلابات الأفريقية أن مضمونها السياسي خضع لتحوّل كبير، فلأول مرة في تاريخ الانقلابات في القارة، منذ الستينيات، أصبح المضمون السياسي للانقلابات ذا نزوع وطني وقومي موجّه إلى خصم خارجي، هو المحتل السابق الذي تمثّله فرنسا، وصار عنوان الداعين للانقلاب هو تصفية الحساب مع الإرث الاستعماري، وليس مع خصم داخلي، بمعنى أن هدف هؤلاء لم يعد يرتكز على الاستيلاء على السلطة من أجل الحكم، وإنما الاستيلاء على الحكم لمواجهة التحكّم.
فخلال العقود الماضية ورغم تعدّد الانقلابات وكثرتها لم يسبق أن رفع الداعون إلى الانقلاب شعارات تنادي بطرد الفرنسيين، بل ظل النفوذ الفرنسي موجوداً خلفهم، بحيث كان يبدو ـ وهذا هو واقع الحال ـ أن فرنسا هي التي تغيّر اللاعبين عندما تتعب من الفريق. ويقول الباحثان الفرنسيان أنطوان غلاسر وتوماس هوفنوغ، في كتابهما المشترك "جواسيسنا في أفريقيا" الصادر عام 2022، إن باريس كانت تغيّر حكّام البلدان الأفريقية كما يغيّر الرجل ثوبه، وكانت هندسة الانقلابات تتم من داخل قصر الإليزيه.
ولعل هذه المعطى الجديد هو ما يقلق الفرنسيين، فهذا التشدّد الفرنسي تجاه الداعين للانقلاب، والهجوم على منفّذي الانقلابات لا يمكن تفسيره سوى بكون فرنسا لم تكن داخل المطبخ عندما كان يتم الإعداد لهذه الانقلابات، وأنها خرجت من المعادلة وأصبحت تطلّ على الوضع من بعيد.
بيد أن وحدة الخطاب السياسي في جميع هذه الانقلابات، من مالي إلى الغابون مروراً بالنيجر، تشير إلى بداية انبعاث روح قومية جديدة لدى الأفارقة، تعيد إلى الأذهان فكرة الجامعة الأفريقية التي رفع لواءها الزعماء الأفارقة خلال حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
لم تعد هذه الانقلابات عملاً عسكرياً صرفاً، بل تحوّلت إلى عمل عسكري ذي مضمون أيديولوجي وطني، وهو ربط السيادة بالقطيعة مع فرنسا، وذلك هو الخطاب الذي دار حوله مؤسسو فكرة الجامعة الأفريقية في الماضي، أمثال بارتيس لومومبا في الكونغو وكوامي نكروما في غانا وتوماس سانكارا في بوركينا فاسو، الذين تخلّصت منهم فرنسا وبلجيكا بالاغتيال.
صحيح أن هناك ممانعة في القارة الأفريقية تجاه هذه الانقلابات في الوقت الحالي، من خلال منظمة الاتحاد الأفريقي التي تحاول محاصرة انتشار هذه النزعة الانقلابية، وتعمل من خلال بعض الأصوات على إبقاء النفوذ الفرنسي، دفاعاً من بعض الأنظمة الحاكمة عن نفسها وتحصين ذاتها من تكرار العمليات الانقلابية ومنع انتشار العدوى، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى انقسام الأفارقة إلى فريقين، وتكرار السيناريو العربي الذي انقسم إلى دول الطوق ودول المحور خلال الستينيات من القرن الماضي.