اليوم التالي للحرب
أراد نتنياهو أن يمنع أصوات المعارضة التي ترفض المفاوضات مع المقاومة، وفي ظل هذا التخبط الإسرائيلي نرى أن شروط حماس ما زالت واضحة وثابتة، وهي وقف الحرب نهائياً ثم الدخول في أي مفاوضات مستقبلية.
أيام أو أسابيع قد تفصلنا عن نهاية الحرب على قطاع غزة، فعلى الرغم من التصريحات الإسرائيلية بأن الحرب مستمرة حتى القضاء على حماس وإخضاع غزة بالكامل للسيطرة الإسرائيلية، فإنّ الواقع السياسي والعسكري يكشف خلاف ذلك تماماً، فلو أردنا الحديث في المجال العسكري، فحتى الآن لا تزال المعارك العنيفة مندلعة في شمال قطاع غزة الذي دخل إليه "جيش" الاحتلال الإسرائيلي منذ ما يزيد على شهر، وأعلن سيطرته عليه.
وقد صرّح المسؤولون الإسرائيليون بأن حماس تكبّدت خسائر فادحة فيه وأنّ قوتها العسكرية قد ضربت في مقتل في هذا الجزء، ولكن شدّة المعارك فيه وضرواتها وخسائر الاحتلال الكبيرة أثبتت خلاف ذلك، خصوصاً المعارك التي حصلت في حي الشجاعية وجباليا وجحر الديك، بل إنه من الممكن القول إن المعركة ما زالت في نقطة الصفر من ناحية النتائج الفعلية.
فالمشاهد تظهر تفوّقاً لقوى المقاومة على الأرض، فالجميع شاهد هجوم المقاومين على خيمة عسكرية "للجيش" الإسرائيلي، وهم حفاة من دون دروعٍ أو خوذ، ومن دون سلاح نوعي وحديث، فاقتصر ما يحملونه على كلاشنكوف وعقيدة إيمانية بأنهم المنتصرون، وقد انتصروا بالفعل ووثّقوا نصرهم.
بالمقابل شاهد الجميع مقطع فيديو نشره "جيش" العدو لجندي يرى فتحة نفق وسط دبابات "جيشه"، فيرتجف ويمسك بكتف زميله ويرمي قنبلة في الفتحة ويده ترتجف، وكأنه يرى الجن أمامه، وبعدها يطلق عدة رصاصات في الفتحة مرتجفاً ويرمي قنبلة أخرى ويجري مسرعاً والخوف يملأ قلبه.
أمام هذين المشهدين يمكننا فهم ما يحدث على الأرض في قطاع غزة، وبالتأكيد فالإدارة الأميركية نفسها قد فهمت ووعت أن إطالة أمد الحرب ليس في صالح كيان الاحتلال أبداً، والذي خسر كثيراً على الأصعدة كافة.
فعلى الصعيد العسكري بات الخوف يتسلل إلى قلوب الجنود الإسرائيليين كما يتسلل البرد إلى أجساد الأطفال الفلسطينيين في خيام قطاع غزة، وعلى الصعيد الداخلي باتت التظاهرات تشكّل جزءاً يومياً من حياة الإسرائيليين وعنوان المرحلة أيضاً، خصوصاً بعد مقتل ثلاثة أسرى برصاص "جيش" الاحتلال في قطاع غزة، فقد شكّل ذلك الحدث ضربة قاسية لثقة الشارع الإسرائيلي بقواته، واللافت كان تلويح المتظاهرين بالعلم الإسرائيلي وعليه لون أحمر يشير إلى الدماء، أي تورّطه في قتل مواطنيه.
هذا إضافة إلى الخسارة على الصعيد الدولي، إذ إنّ الغطاء الدولي يُسحب عن كيان الاحتلال، فهناك رفض عام لما يحدث في قطاع غزة من جرائم ضد الإنسانية، وبالتالي واشنطن لن تسمح بإطالة الحرب أبداً.
قبل أيام قليلة، أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رئيسَ الموساد ديفيد برنيع كامل الحرية في العمل للإفراج عن الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وتشمل هذه الحرية لقاء الوسطاء بهدف تحريرهم، وهذا ما جعل برنيع يوجّه عمله صوب قطر تحديداً، وتصرّف نتنياهو هذا يمكن تفسيره بأنه فهم أخيراً أن الحرب لا فائدة منها، وأنه بالحرب لن يعود أحد حياً من الأسرى، ومن المعلوم أن أجهزة الأمن لدى كيان الاحتلال والمتمثلة بالـ (الموساد، والشاباك، وأمان) تمتلك سلطة أعلى من سلطة الحكومة نفسها، وكلامها ينفّذ من دون تأخير أو رفض.
وبالتالي أراد نتنياهو أن يمنع أصوات المعارضة التي ترفض المفاوضات مع المقاومة الفلسطينية المتمثلة باليمين المتطرف مثل إيتمار بن غفير وبتسلإيل سموتريش، وفي ظل هذا التخبط الإسرائيلي نرى أن شروط حماس ما زالت واضحة وثابتة، وهي وقف الحرب نهائياً ثم الدخول في أي مفاوضات مستقبلية.
أكثر ما يقلق نتنياهو هو سؤال ماذا سيحدث في اليوم التالي للحرب؟
الكل يعلم أن نتنياهو ووزير الحرب يوآف غالانت، ورئيس الأركان هرتسي هليفي، سيتوجهون إلى المحكمة العليا التي تملك بحقهم ملفات كثيرة ستجعلهم يقبعون في السجن سنوات عديدة، وهو ما حدث مع رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت الذي فشل في حرب لبنان 2006، وإن حادثة خطف جنديَين إسرائيليَين جعلته يعيش في السجون 16 شهراً، فكيف بهذه الحرب وما ترتّب عليها؟
ناهيك عن الدعاوى التي ستُرفع عليهم في المحاكم الدولية، وبالتالي الصورة التي حاول نتنياهو رسمها لنفسه بوصفه ''أعظم'' رئيس وزراء في تاريخ كيان الاحتلال، بل وأنه أعظم من دافيد بن غوريون، وقد تحطّمت تلك الصورة على رأسه، وسيمهّد ذلك لنهاية حكم اليمين وعودة الوسط واليسار إلى السلطة، وهو ما يسهّل إجراء مفاوضات تسوية حقيقية في المنطقة على أساس حدود 1967، وهي المبادرة العربية التي قدّمتها السعودية في قمة بيروت 2002.
أما فيما يتعلق بالفلسطينيين، فاليوم التالي للحرب هو أيضاً سؤال مهم، فقد دمّرت أساليب الحياة والبنية التحتية كلها في قطاع غزة، وبالتالي يجب أن تكون هناك جهود دولية سريعة لإعادة شريان الحياة فيه إلى النبض من جديد، إضافة إلى ضرورة فك الحصار وعدم السماح للكيان بإعادة حصاره مجدداً، لأنه سيمهّد بذلك الطريق لطوفان أقصى جديد لن يكون هدفه غلاف غزة فقط، بل قد يمتد إلى أعمق وأبعد من ذلك بكثير.
الحل الوحيد ربما يكون في إيجاد رئيس وزراء فلسطيني جديد ذي قدرة سياسية واقتصادية كبيرة، وشخصية مقبولة في المجتمع الفلسطيني مثل الدكتور سلام فياض، الذي يعد شخصية يقبلها جميع من في الساحة الفلسطينية، إضافة إلى عودة قطاع غزة إلى حكم السلطة من دون إقصاء أي حركة من حركات المقاومة فيه، ومنحه صلاحيات كبيرة بحيث يكون نظام الحكم في السلطة الفلسطينية شبيهاً بالعراق، فيمتلك الرئيس بيده بعض السلطات التشريعية، في حين تبقى الصلاحيات الفعلية بيد رئيس الوزراء.
بعد هذا كله، يجب العمل لإعادة اللاجئين وهو شرط أساسي في اتفاق أوسلو، ومن يعود منهم فعليه القبول بالبقاء في فلسطين وعدم العودة إلى الخارج، ثم تهيئة الأرضية خلال مدة خمسة أعوام لإجراء استفتاء عام في الأراضي الفلسطينية كافة، يتعلق بطريقة الحكم ومن يحكم.
هذا الحل ربما يكون الحل الوسط والمتاح للمنطقة، لأنه من دون إقامة دولة فلسطينية لن يكون هناك هدوء في المنطقة التي هي أساساً مقبلة لتكون بوابة العالم الاقتصادية، وبالتالي التوترات فيها لن تفيد أحداً، وهو أمر على الإدارة الأميركية أن تعيه تماماً.