الهجوم البريّ على غزة سيحوّلها "مقبرة" للغزاة

استراتيجيّة الدخول البرّيّ قد تتوقّف أو تلغى أو تؤجّل إلى فترة طويلة، ويستعاض عنها بطرق أخرى تحتاج إلى نفس طويل، ما عساها تكون؟

  • معركة طوفان الأقصى.
    معركة طوفان الأقصى.

بعد عملية التسويق لبيع وترحيل الفلسطينيين من غزة إلى جوارها وأصقاع العالم، يعود وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مرة ثانية إلى "تل أبيب" خائباً، بعد أن زارها كـ "يهودي" وليس كممثّل للولايات المتحدة الأميركية لعرض نتائج "العرض المغري" لمن يرضى بعملية "التهجير الثانية" أو "الترانسيفير" الذي حصل بعد عام 1948 (تاريخ النكبة الفلسطينية)، في إثر عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وزلزلت بها الكيان الصهيوني وأميركا والاتحاد الأوروبي وحلفائهم في المنطقة، وخلطت أوراق المطبّعين أو من كان يريد التطبيع مع هذا "الكيان الغاصب"، وأعادت عقارب الساعة الصهيونية إلى الوراء.

في تاريخ 27 تشرين الأول/أكتوبر2019 وبعد الترويج لصفقة القرن التي سوّق لها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، نقلت وكالة رويترز في حينها مقالاً عن الـ BBC، يقول إن الشق الأساسي من صفقة القرن يشمل قطاع غزة حيث يعيش هناك أكثر من 2 مليون فلسطيني، وكانت الفكرة بتوسعة القطاع باتجاه شبه جزيرة سيناء المحاذية لقطاع غزة، بحيث يصبح امتداد غزة من رفح حتى العريش في مصر، ويمكن بناء بنية تحتية وإقامة المساكن والمصانع ومطار وميناء بحري ومحطات توليد الكهرباء لهم، ويستطيع من خلالها الفلسطينيون أن يعملوا ويعيشوا هناك.

والشق الثاني الذي كان يعمل عليه الصهاينة هو تهجير سكان الضفة باتجاه الأردن وبالمخطط الآنف الذكر نفسه الذي تحدّثنا عنه أعلاه مقابل مليارات الدولارات تعويضاً للأردن ومصر، وهذا معناه انتهاء شيء اسمه القضية الفلسطينية، والكيان الصهيوني يمتلك فلسطين من البحر إلى النهر من دون أصحاب الأرض الحقيقيين. وتصبح مسؤولية الفلسطينيين وإداراتهم تحت مسؤولية الأردن ومصر والدول المستضيفة للاجئين الفلسطينيين بأراضيها وتوطينهم فيها. وهكذا تنتهي "إسرائيل" من هم وجود الفلسطينيين في "الأراضي المغتصبة لهم" وقيام "دولة إسرائيل الموعودة" وعاصمتها القدس الشريف أو "أورشليم" باللغة العبرانية.

إنه مشروع ييغال آرون الذي طرحه على مجلس الوزراء الصهيوني عام 1967 والذي أكدته صحيفة "إسرائيل هيوم" على موقعها الإلكتروني، والتي قالت إنه يتم التداول به في وزارة الخارجية الإسرائيلية في وثيقة في البند الرابع منها "أن الوزارة تطلب استئجار الأرض من سيناء لفلسطين الجديدة"، وهذا ما أكده رئيس الجامعة العبرية هوشع بن هارييه في عام 2013، وخطته تنصّ على تمدّد حدود غزة إلى مدينة رفح والشيخ زويد والعريش.

وهو المشروع الحقيقي الذي يسوّقه من جديد وزير الخارجية الأميركي "اليهودي" كما قال هو نفسه، لدول مصر والسعودية وقطر والأردن وغيرها من الدول، وتوطين الباقين في الأراضي التي يقومون فيها مقابل مليارات الدولارات التي سيتم إنفاقها من خزائن الدول العربية المطبّعة أو غيرها من الدول التي تجد نفسها مضطرة للقبول بهذه الصفقة.

العملية "الاستباقية" التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، "طوفان الأقصى" والتي لم يشهد لها مثيل في تاريخ الحروب والصراعات في العالم، والتي قام بها بضعة مقاومين بكفاءة عالية، أعادت خلط الأوراق ليس في المنطقة فحسب بل في العالم أجمع.

الحرب ما زالت في بداياتها، والصراع الدائر بين أقطاب الحكومة الصهيونية الجديدة وجنرالاتها المتمرّسين في القتل والتهجير على مرّ العقود المنصرمة، ما زالت تدور حول توسيع العملية لتشمل الجوار، أو القيام بحرب برية لاجتياح غزة وتنفيذ عملية التهجير للفلسطينيين، ولكن هل سيقدرون على ذلك خاصة وأن الولايات المتحدة الأميركية جاءت بأساطيلها وحاملات طائراتها إلى السواحل القريبة من فلسطين لدعم الكيان الصهيوني.

وللجواب على هذا السؤال لا بدّ من قراءة ما جاء على لسان جدعون ليفي، الصحافي الإسرائيلي في صحيفة هآرتس في تاريخ 08/10/2023: الذي قال "اعتقدنا أنه بإمكاننا مواصلة السيطرة الديكتاتورية على غزة، وإلقاء فتات الجميل هنا وهناك على شكل بضعة آلاف من تصاريح العمل في إسرائيل، والاحتفاظ بها كسجن لهم. لقد اعتقدنا أننا سنستمر في رفض أي محاولة للحل السياسي بكل غطرسة، لأنه ببساطة لا يناسبنا، وأن كل شيء سيستمر بالتأكيد على هذا النحو إلى الأبد. ومرة أخرى، تبيّن أن الأمر ليس كذلك. بالأمس، كانوا يتحدثون بالفعل عن تدمير أحياء بأكملها في غزة، واحتلال القطاع ومعاقبة غزة كما لم تتم معاقبتها من قبل. لكن إسرائيل تعاقب غزة منذ عام 1948، من دون توقّف لحظة واحدة". 

وأضاف "75 عاماً من الانتهاكات، والأسوأ ينتظرنا الآن إن التهديدات بـ "تسوية غزة" تثبت شيئاً واحداً فقط: أننا لم نتعلّم شيئاً. إن الغطرسة موجودة لتبقى، على الرغم من أن إسرائيل دفعت مرة أخرى ثمناً باهظاً. بنيامين نتنياهو يتحمّل مسؤولية ثقيلة جداً عما حدث، وعليه أن يدفع الثمن، لكن الأمر لم يبدأ معه ولن ينتهي بعد رحيله. وعلينا الآن أن نبكي بمرارة على الضحايا الإسرائيليين. ولكن علينا أيضاً أن نبكي على غزة. وغزة، التي يتكوّن سكانها بشكل رئيسي من اللاجئين الذين خلقتهم إسرائيل؛ غزة التي لم تعرف يوماً واحداً من الحرية". (انتهى كلام ليفي).

ربما ما جاء في كلام جدعون ليفي (على قاعدة وشهد شاهد من أهلها)، يجعلنا نقول إنّ الكيان الصهيوني سيندم إذا ما حاول القيام بالهجوم البري على قطاع غزة. ولتأكيد هذا الكلام لا بدّ من المرور على ما جاء في كبريات الصحف الأميركية والأوروبية حول هذا الشأن:

‏ ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية – يوم أمس الأحد-أن الجيش الإسرائيلي قرّر إرجاء توغّله المتوقّع لقطاع غزة، لعدة أيام "بسبب الظروف الجوية السيئة"، ونقلت عن 3 ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي، لم تكشف عن هويتهم، أنه كان من المفترض أن يبدأ الهجوم البري في عطلة نهاية هذا الأسبوع، لكن تمّ تأجيله جزئياً بسبب السماء الملبدة بالغيوم التي ستجعل من الصعب على الطيارين الإسرائيليين ومشغّلي الطائرات من دون طيار توفير غطاء جوي للقوات البرية.

بينما المحلل العسكري عاموس هرئيل، قارب بين السجال والخلاف في وجهات النظر بين السياسيين بشأن التوغّل البري، وبين التقديرات بشأن عملية برية محدودة المدة، ورجّح أن "إسرائيل" التي تأخذ بالحسبان الاعتبارات الإقليمية والدعم الغربي الذي سيتقلّص مع تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة، انتقلت بالاستعدادات للهجوم البري إلى مرحلة أكثر تقدّماً، وذلك بعد حكومة الطوارئ واستقرار السيطرة على مستوطنات "غلاف غزة" والجنوب، كما تأخذ بعين الاعتبار الضغوطات الدولية والإقليمية التي قد تمارس عليها، وربما تقنعها حتى بالعدول عن التوغّل البري الواسع.

الكاتب سهيل كيوان في موقع (عرب 48) أفاد أنه لا يظنّ أنّ حالة الطقس هي الّتي تعرقل الدخول البرّيّ إلى قطاع غزّة، بل على الأرجح هو الأخذ بعين الاعتبار وضوح جدّيّة تهديد حزب اللّه بأنّه لن يبقى متفرّجاً. التدخّل من قبل حزب اللّه سوف يلقى ترحيباً عربيّاً شعبيّاً وإسلاميّاً، وسيعيد مكانة حزب اللّه إلى الواجهة كما كان الأمر بعد حرب تمّوز عام 2006، وهذا ما لا يريده حلفاء أميركا والمطبّعون في المنطقة بعدما تراجعت شعبيّته في السنوات الأخيرة بعد تورّطه في الحرب السوريّة الداخليّة. 

في هذه الحالة فإنّ الطيران الأميركيّ لن يجدي كثيراً، لأنّ شمال "إسرائيل" سيتحوّل إلى منطقة مشتعلة وميدان للحرب والقصف لمدّة قد تطول لأشهر، وهناك أصوات قويّة وجريئة ترفض أن يأخذ نتنياهو الشعب إلى حرب شاملة غير مستعدّ لها بصورة كافية، وترى أنّه يحاول التهرّب من المسؤوليّة عن الضربة الموجعة حتّى على المدى الاستراتيجيّ وذلك من خلال الاندفاع إلى الأمام نحو الحرب الشاملة.

كذلك يبدو أنّ الجنرال بيني غانتس الّذي دخل حكومة الطوارئ، لن يكون متحمّساً إلى الحرب على جبهتين، وبصفته مرشّحاً بديلاً لرئاسة الحكومة المقبلة بعد إسقاط نتنياهو ومحاسبته، لا بدّ أن يأخذ بعين الاعتبار ماذا بعد حماس في غزّة! وهناك حسابات أخرى يجب أن يأخذها بعين الاعتبار، الخسائر الكبيرة المتوقّعة على جبهتين، والوضع الداخليّ في الدول العربيّة الّذي سيتأثّر كثيراً، خصوصاً في مصر والأردنّ ودول تسعى للتطبيع.

لهذا فإنّ استراتيجيّة الدخول البرّيّ قد تتوقّف أو تلغى أو تؤجّل إلى فترة طويلة، ويستعاض عنها بطرق أخرى تحتاج إلى نفس طويل، مثل محاصرة المقاومة وقضم الأرض ببطء بعد حرثها بأسلحة أميركيّة خارقة للأنفاق والتحصينات، وبأقلّ ما يمكن من خسائر في صفوف الجيش، وكلّما تأخّر الهجوم البرّيّ يوماً فإنّ احتمال الامتناع عنه يصبح أكثر.

يقرّ اللواء ياكوف عميدرور، القائد السابق للجيش الإسرائيلي ومستشار الأمن القومي، بأن قتال حماس سيكون صعباً. ويقول إن حماس ستكون قد زرعت مفخّخات وعبوات ناسفة عند نقاط الدخول وعلى طول الشوارع الضيقة. وتعتقد "إسرائيل" أن حماس لديها نحو 30 ألف جندي، وتشمل أسلحتهم بنادق آلية وقذائف صاروخية وصواريخ مضادة للدبابات، وبعضها من أصل روسي مثل صواريخ الكورنيت وفاغوت.

القائد السابق للجيش الروسي الثامن والخمسين أندريه جوروليف يرى أنّ "الدبابات الإسرائيلية" التي ترونها حالياً هي موجودة في عمق "إسرائيل" ولو اقتربت من حدود غزه ستحرقها طائرات حماس المسيّرة، والمعدّات الثقيلة غير مفيدة للجيش الإسرائيلي في بيئة حضرية كهذه، وهذا يعني أن الجيش الإسرائيلي سيخوض حرب عصابات وسيتكبّد خسائر فادحة جداً.

وعن الولايات المتحدة التي أحضرت حاملة طائراتها... ضد حماس سيكون أسوأ كابوس يمرّ على أميركا، صحيح حالياً هناك صمت لكنّ تدخّل الولايات المتحدة يعني تدخّل الدول الكبرى لموازنة القوى وستتعرّض حكومات الدول العربية لضغوطات شعبية هائلة إن لم تتوازن القوى، سيصبح وجود "دولة إسرائيل" في الشرق الأوسط في خطر حقيقيّ... وإن اشتعلت النيران في الشرق الأوسط لن يبقى هناك شيء اسمه "إسرائيل".

الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين يقول إن هناك معلومات تفيد بوجود خلافات في مجلس الوزراء الإسرائيلي حول هذه القضية، لكن على الأرجح إن الولايات المتحدة، من خلال قياس ردّ فعل العالم الإسلامي على بداية الإبادة الجماعية المنهجية للفلسطينيين، تسجّل مخاطر التصعيد غير المقبولة لمصالحها الحيوية، فأميركا لن تحصل على أي شيء على الإطلاق من عملية برية، ومن الممكن أن تشعل حرباً عالمية على أيّ حال، لقد حدث بالفعل التوحيد السريع للعالم الإسلامي على منصة مناهضة لأميركا (بسبب الدعم الكامل لإسرائيل)، الأمر الذي أدى إلى تغيير جذري في الظروف التي أدت إلى اندلاع صراع عالمي محتمل، إنّ بدء العملية البرية من شأنه أن يجعل الوضع لا رجعة فيه ولا يمكن السيطرة عليه، يمكن الافتراض أن الآراء القطبية حول هذه المسألة قد تطوّرت ليس فقط في "إسرائيل"، بل في الولايات المتحدة أيضاً.

لكن يبقى الجواب الحقيقي لكلّ ما كتب أعلاه، للميدان، فنتائج الحرب على الأرض هي التي ستحدّد من الرابح ومن المهزوم، وإن كانت "إسرائيل" قد تعرّضت لهزيمة نكراء لا تستطيع أن تغسل عارها مهما امتد زمنها، ومن الواضح أيضاً أن نتائج الميدان ستحدّد مصير الجبهات الأخرى إذا ما فتحت على مصاريعها، فوزير الخارجية الإيراني قال إن "الوقت للحلول السياسية بدأ ينفد" وعلى أصحاب القرار المبادرة إلى وقف التصعيد الصهيوني، وهذا يعني أن احتمالات التدخّل الإيراني إن كان مباشرة أو من خلال حلفاء إيران في المنطقة واردة في أي وقت يسمح لها بذلك.

أما عن الجبهة اللبنانية الجنوبية فلا يخفى على أحد أنها بدأت منذ اليوم الأول للعدوان على قطاع غزة، والعمليات التي قامت بها المقاومة الإسلامية في مزارع شبعا خير دليل على ذلك، واستمرار العمليات وتصاعدها من يوم إلى آخر نتيجة الاستفزازات "الإسرائيلية" واعتداءاتها على المدنيين والصحافيين (وآخرها استشهاد المصور في وكالة رويترز عصام عبد الله، وإصابة عدد آخر من الصحافيين ما زالوا يتلقّون العلاج) سيرفع من وتيرة الردّ والردّ المباشر إلى مستوى الحرب فيما لو استمرت على هذا المنوال.

وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، قال "يجب أن نعترف بصدق وألم ورؤوسنا منحنية بأننا فشلنا في الحفاظ على سلامة الإسرائيليين، ولم ننجح في الوفاء بالعقد غير المكتوب بين الحكومة وبينهم". وبإذن الله هذا ما ستعترف به بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية بعد تظهير النتائج الحقيقية لـ "طوفان الأقصى"، وما سطّره وسيسطّره المقاومون في محور المقاومة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.