المهاجرون المسيحيون وكتبهم الباقية
أنا حارس كتبكم وذكرياتها وصفحاتها وأحرفها وحركات الفتحة والضمّة والتنوين فيها.
أنا الرابح من هجرةِ المسيحيين. كلّ من هاجرَ منهم يأتي إليَّ مع كتبه المهمة لديه، ليعطيني إياها وهو يعرف أنني سأضمّها إلى مكتبتي، وأدون في فهرسها أنها هدية من فلان.
وعندما أقف أمام رفوف الكتبِ وأنا أمسك فنجان قهوتي، تتراقص أمامي صور الذين هاجروا وهم يودِّعونني ويعطونني كتبهم.
أتخيل صورَ الذين هاجروا وبقيت كتبهم في حلب. كم تحمل هذه الكتب من ذكريات! يوم اشتروها ويوم قرأوها.
كم فنجان قهوة تراقص بين أصابعهم وهم يقرأون هذه الكتب!
كم ليلة سهروا وهم يَتصفّحون ويُسابقون الأسطر! وكم علامة وضعوا على هوامش هذه الكتبِ!
يناديني كتابٌ منهم، فأُخرجهُ وأتصفحه، وأتذكر صاحبه كيف أعطاني عدة كتبٍ كأنه يتخلّى عن أطفاله.
أُقلِّب صفحات الكتاب، فأسمع أنيناً كأنه يشكو تخلّي صاحبه عنه.
أعيد الكتاب إلى مكانه، ثم أجلس إلى طاولتي وأتذكر كلامهم:
- "نحن نعرف أننا لن نعود ولن نلتقي، ونحن في عمرِنا الَّذي تجاوز الستين نعيش الغربة بانتظار الموت".
- "نعيش على الذكريات الجميلة، ونتذكر التفاصيل الصغيرة التي لم نكن نعيرها انتباهاً".
- "حتى حنفيات مدرسة الطفولة نتذكّرها، واللوح والطباشير، وجرس الفرصة والباحات، وحتى نبرة صوت الأستاذ في الصف، نستعيدها ونبتسم".
كل هذه الكلمات سمعتها ممن لم يبقَ بيننا سوى هذا الخلوي الذي يربطني بهم.
أحدِّق في مكتبتي، وتجول روحي بين رفوفها، فأنا أحمل بعض ذكريات من هاجروا.
أنا حارس كتبكم وذكرياتها وصفحاتها وأحرفها وحركات الفتحة والضمّة والتنوين فيها.
لقد هاجرتم وأسرتموني هنا، فلِمن أترك كتبكم وأنا أحرسها؟
أترك فنجان قهوتي على الطاولة، وأغادر مكتبي، لعلّني أتنشق بعض الحرية.