المستهدف ليس المقاومة وحماس.. إنه مشروع لإنهاء كل فلسطين
إن المشروع المخادع الذي سمّوه زوراً وتسويقاً "الربيع العربي"، والذي سمّيته في مقال لي عام 2012 "الهزيع العربي"، ليس سوى برنامج لتفتيت العالم العربي وتقسيمه: العراق ولبنان وسوريا ومصر والسودان وليبيا واليمن... وفقاً لهذا المشروع الكبير.
ما اقترفه الاحتلال الإسرائيلي من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة الفلسطيني في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2023 بعد عملية "طوفان الأقصى" ليس رد فعل على عملية عسكرية غير مسبوقة، إنما لأهداف أوسع من القضاء على المقاومة الفلسطينية عموماً، وحماس على وجه التحديد.
إن ما يطمح الاحتلال لتنفيذه ويجند له رؤساء الغرب الجمعي الاستعماري في إطار حملة دعائية شديدة هو تغيير جغرافيا فلسطين، بل العالم العربي بالكامل.
ما يقوم الاحتلال بتسويقه في الإعلام هو أنه يريد القضاء على "الإرهاب". ولكي يفعل ذلك، فهو لا يريد قتل عدد كبير من الفلسطينيين الغزيين (رغم أنه يدك بهم بأسلوب الإبادة باستمرار). لذلك، يطلب منهم الرحيل جنوباً بشكل "مؤقت" لغاية إتمام المهمة، فيما الهدف "هو خداعهم" بأنهم سيعودون، فيما المخطط لهم هو ألا يعودوا أبداً (كما حصل في نكبة 1948)، وأن يتموضعوا في شمال سيناء بشكل دائم كجزء من مصر (التي يخطط لها أصلاً مشروع تقسيم آخر).
ما يريده الاحتلال الإسرائيلي هو تهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء المصرية والسيطرة على قطاع غزة بالكامل لتكون منطقة عازلة (Buffer Zone) ما بين "دولة" الاحتلال ومصر، على أن يتبخر حلم إقامة الدولة الفلسطينية من دون رجعة، بحسب حلمهم.
طبعاً، لن يغيب عنهم عامل الاستغلال الاقتصادي. ولكي يكسبوا العمالة الفلسطينية الرخيصة (على غرار الحطابين والسقائين) سيقررون إبقاء عدد محصور منهم، مثلما حصل عام 1948 أيضاً (يُسيطر عليهم أمنياً وبالتبعية المالية)، ومن دون طموحات قومية تهدد كيانهم الغاصب. وفي هذا الإطار، صرح وزير حربهم غالانت من دون تفسير: "غزة لن تعود لما كانت عليه". فما القصد إذاً؟
أ- تصفية أكبر عدد من المقاومين من كل الفصائل.
ب- تدمير أكبر نسبة من "مدينة الأنفاق"، وذلك قد يعني تدمير نصف قطاع غزة.
ج- تهجير أكبر عدد من الفلسطينيين من قطاع غزة.
د- بعد ذلك، تسليم القطاع (وديموغرافية قليلة) لعصابة عملاء (مع رئيس "فلسطيني" للعصابة) لإدارتها تحت إشراف "الشاباك".
إن هذا التفكير ليس جديداً، بل هو جزء من مخطط الشرق الأوسط الذي سهر عليه كثيراً المؤرخ/المستشرق البريطاني - الأميركي الصهيوني المخابراتي برنارد لويس (1916-2018) مع شريكه الصهيوني الآخر وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر.
حصل لويس على البكالوريوس وبعدها الدكتوراه من جامعة لندن (كلية الدراسات الشرقية والأفريقية) ما بين 1938-1949، وعيُن أستاذاً في موضوع التاريخ عام 1949، إلا أنه ترك كلية "سواس" (SOAS) عام 1974، متوجهاً إلى جامعة برينستون في أميركا، حيث بدأ التعاون بينه وبين هنري كيسنجر بكل ما يتعلق بالشرق الأوسط.
إن مشروع السيطرة الصهيوأميركية على العالم العربي وفقاً "للعملاقين الصهيونيين" (ولويس بالتحديد) قد يتحقق على مراحل، ووفقاً للظروف في كل دولة، وبالتأكيد وفقاً لنسبة نجاح المؤامرات فيها، عبر تطبيق هدفين: الأول هو "لبننة" (Lebanonisation) العالم العربي، أي تقسيم المناطق الجغرافية وفقاً للوجود الطائفي عموماً، وبشكل قريب مما كانت عليه لبنان أثناء الحرب الأهلية ما بين 1975-1990، وهذا سيؤدي إلى تطبيق الهدف الثاني، وهو التخلص من الدولة (العربية) القومية المناوئة لـ"الدولة" الصهيونية على أساس القبول بـ"الدولة اليهودية" ما دامت الدول تخضع لمنطق الدين والطائفية!
إن المشروع المخادع الذي سمّوه زوراً وتسويقاً "الربيع العربي"، والذي سمّيته في مقال لي عام 2012 "الهزيع العربي"، ليس سوى برنامج لتفتيت العالم العربي وتقسيمه: العراق ولبنان وسوريا ومصر والسودان وليبيا واليمن... وفقاً لهذا المشروع الكبير.
من هذا المنطلق، لا يوجد في خارطة برنارد لويس مكان لدولة فلسطين القومية كوطن مستقل للشعب الفلسطيني. منذ أن هزم نتنياهو شمعون بيريز في أيار/مايو 1996 بعد اغتيال إسحاق رابين، كان الهدف الأعلى للاحتلال الإسرائيلي (ونتنياهو بالتحديد) هو منع قيام دولة فلسطينية، لا على 25 % ولا حتى 5%!
كما أن الاحتلال يريد أن يستأصل أي نوع من أنواع المقاومة الفلسطينية في كل مكان (انظروا ماذا فعل بالجبهة الشعبية في الضفة الغربية على مدار العقدين الأخيرين). وبالتالي، فإن استعمال مفردات مثل "محو" (إزالة) بالنسبة إلى غزة ليس خاصاً بها، فقد قالوا ذلك عن حوارة - نابلس وغيرها.
إن ما يخطط له هو التخلص من الفلسطينيين في قطاع غزة وتهجيرهم إلى مصر والسيطرة على جنوب فلسطين. أما وقد حصلت السيطرة على غرب فلسطين في نكبة 1948، فما تبقى أهم، وهو تحويل أكبر عدد من الفلسطينيين إلى الأردن ما دامت الضفة الغربية آخذة بالتغلغل بالمستعمرين اليهود من كل العالم، وتحويل الأردن إلى "الوطن البديل"، ولكن أيضاً مع إبقاء شريحة عمالية خدماتية.
من هنا، نفهم رضا الدولة الأردنية على التظاهرة المليونية التي خرجت يوم الجمعة 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ضدّ جرائم الاحتلال في قطاع غزة، إذ كان الهتاف المركزي: "قالوا حماس إرهابية - كل الأردن حمساوية"، لتأكيد دعم كل الأردنيين للمشروع الوطني القومي الفلسطيني، ولقطع الطريق على الاحتلال الإسرائيلي.
لهذا، فقد سمعنا أن الإدارة الأميركية تحاول متبنّيةً أسلوب الضغط التسويقي (الذي يأخذ طابعاً تهديدياً إرهابياً، واقتصادياً أحياناً) الضغط على مصر والأردن ومحمود عباس بشكل خاص القبول بهذا المخطط رغم عدم طرحه عليهم بهذه التفاصيل الفكرية الكاملة.
طريقة التنفيذ التكتيكية لهذا المخطط هي فرصتهم باجتياح بري يؤدي إلى تهجير الفلسطينيين وتحويل غزة إلى تابع اقتصادي ضعيف.
وللدفاع عن جرائم الاحتلال ولمنع توسيع حرب الإبادة إلى جبهات إضافية، بدأت أميركا بالتهديد والوعيد بسفينة/ حاملة الطائرات الحربية "فورد" وزيارات وزراء واشنطن وغيرها بالتزامن مع حرب نفسية تشمل الأكاذيب والخداع والمراوغة والابتزاز.
اجتياح الاحتلال لقطاع غزة لن يكون نزهة، لأن المقاومة متعددة الأساليب. وربما قبل الاجتياح، سيتم فتح جبهات من عدة جهات (بالتحديد في حال عدم رفع الحصار اللاإنساني: صحة/طب ومياه وكهرباء وغذاء ووقود)؛ فإذا استمر التعنت الصهيوأميركي، ولم تقم جبهة المقاومة بالتآزر والدفاع عن قطاع غزة، فقد تُضعف مصداقيتها في أوساط حاضنتها الشعبية أولاً، وأشك في أنها ستقبل بذلك.
الاحتلال الذي بات واضحاً أنه فعلاً "أوهن من بيت العنكبوت" يعي ذلك، وهذا هو سبب استجداء واشنطن؛ رأس حربة الاستعمار، للمساعدة أمام جبهة المقاومة.
من يمكن أن يمنع تنفيذ هذا المخطط الجهنمي؟ إضافة إلى الضغط العالمي الرسمي والشعبي على الاحتلال، هناك مصر والسعودية، و"محلياً" الأردن و"القيادات" الفلسطينية و\أو اشتعال شرق فلسطين المحتلة عام 1967 بمواجهات عنيفة غير مسبوقة، إضافة إلى الرأي العام العالمي الضاغط على الاحتلال، كما حصل في الأيام الثلاثة الماضية بعد صدمة "طوفان الأقصى".
يمكن أن يكون هذا المنع قبل وخلال أو بعد حرب قصيرة، لكن بعدها (ووفقاً لحجم الإبادة الدمار) ستدخل بعض الدول كوسيط، وأبرزها الصين وروسيا مع دولة اسكندنافية، إضافة إلى اللاعبين الإقليميين.
أذكر هنا ندوة عن القضية الفلسطينية نظمها مركز "كمبريدج" لدراسات فلسطين قبل عامين، وكنت قد أدرتها وشارك فيها الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية السفير حسام زكي، الذي قال إن الجميع يمكن أن يحاولوا التدخل في القضية الفلسطينية وممارسة الضغط والوساطة، لكن في النهاية لا يقرر للشعب الفلسطيني إلا الشعب الفلسطيني نفسه.
أما وقد فهمنا أن المشروع المبيت ليس المقاومة وحماس... إنما إنهاء كل فلسطين وفقاً للويس وكيسنجر وكآلية مشروع التهجير، خطر لي استعادة تغريدة غردتها صباح 13.10.2023:
"نداء عاجل لشعبنا في قطاع غزة. إلى إخوتي وإخواني في قطاع غزة. أعرفكم من كثب، فقد عشت معكم ولم تسل دمائي إلا في غزة، ولم أعالج إلا في مستشفى الشفاء.
أنتم رمز المقاومة والصبر والثبات. لن نلقنكم دروساً، إنما نشد على أياديكم في هذه المحنة غير المسبوقة والفترة الحالكة والمصيرية. وبما أنكم تخضعون الآن لحملة تخويف بهدف التهجير، فسأتلو عليكم قصة قومية عائلية. في مطلع أيام النكبة الفلسطينية في أيار/مايو 1948، كانت جدتي (مدام خوري) محاصرة في منزلها في حي العجمي في يافا. وكانت أرملة مع ابنتها الوحيدة. وكان القتل والتهجير قد بدآ عبر الميناء اليافي الشهير بالأساس، ومعهما الحرب النفسية بهدف تهجير الفلسطينيين.
أصرَّت جدتي على البقاء في بيتها وبشكل صارم. أكثر من ذاك، بدأت تُقنع من استطاعت من الجيران قائلة: "أن نموت في بيوتنا أفضل من أن نصبح لاجئين"، وأقنعت من أقنعت في حارتنا، وبقيت وعاشت لعقود في بيتها في يافا، لتصبح من "الناجين من النكبة"، وليست من ضحاياها (القتلى) أو لاجئيها".
أعرف أنكم لن تسمحوا للويس وكيسنجر وطلابهما بتقرير مصير الشعب والفلسطينيين (ولو أنهم يحاولون تقرير مصير 400 مليون عربي) وبقية العالم.
خجلاً منكم يا أهلنا في قطاع غزة، فهذه المرة (كما حصل في مراتٍ سبقت)، يقع الحمل عليكم، ويا للعار والأسف. يقع على قطاع غزة بشراً وحجراً. أنتم الذين تدفعون فواتير الكرامة بأشلائكم.
كقصة عشاء يسوع المسيح الأخير ومحاكمته وموته في القدس.
وكيف يمكن لقطاع غزة أن يسدد دين خطايا الجميع؟
تقولون للعالم: هذا هو جسدنا. هذا هو دمنا.
لمغفرة خطايا الجميع. وستبقون على العهد.
الرحمة للشهداء، والشفاء العاجل للمصابين، والصبر والثبات للشعب الفلسطيني في قطاع غزة بالتحديد. دمتم سالمين بقدر المستطاع.