الصين في أفريقيا.. تحدّي القوة العسكرية والناعمة للإمبريالية

إذا كان على القارة الأفريقية الحذر من لاعب دولي، فهو بالتأكيد ليس الصين وإنما رعاة المؤسسات المالية الدولية.

  • الصين في أفريقيا.. تحدّي القوة العسكرية والناعمة للإمبريالية
    الصين في أفريقيا.. تحدّي القوة العسكرية والناعمة للإمبريالية

عقب المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي الصيني، والذي كان مؤتمراً مفصلياً في سبيل بناء الصين التي نراها اليوم، اتخذ عدد من القرارات نذكر منها قرار الانفتاح على العالم الخارجي، حيث أقرّ تنفيذ الانفتاح على العالم الخارجي، وإدخال حقيقة بناء التحديث الصيني في تشكيل تيار التحديث العالمي، وتهيئة الظروف المواتية للاستفادة من القوة الدولية بصورة كافية. 

والآن في ظل أوضاع زيادة الاعتماد المتبادل بين دول العالم يوماً بعد يوم، وتعزيز اتجاه التكامل الاقتصادي أكثر فأكثر، من الطبيعي أن تتجه الصين نحو العالم، وأيضاً أن يتجه العالم نحو الصين، خصوصاً ممن يبحثون عن شراكات لدفع عجلة التنمية في الدول الراغبة في الشراكة مع الدول الكبرى مثل دول أفريقيا.

يمكن القول إن الانفتاح الصيني عند التفكير فيه منذ بدايته لم يظفر بالبيئة الدولية التي تسمح له بذلك، فقبل عام 1949 لم يجعل عدوان الإمبريالية وسلبها، والحروب الداخلية المستمرة والمتواصلة الصين عاجزة عن تحقيق الاستفادة من العوامل الملائمة في البيئة الدولية، والحصول على المساعدة من أجل التحديث فحسب، بل أصبح هيكل العلاقات الدولية شبه المستعمرة، والسيطرة الإمبريالية بمنزلة عوامل تقيّد مسيرة التحديث الصيني أيضاً. 

وبعد عام 1949 ظفر الصينيّون بالاستقلال السياسي والاقتصادي، وأصبحت لديهم الظروف التي تسمح لهم بالسير ليصبحوا قوة دولية فاعلة، ومع ذلك فإن قيام الإمبريالية العالمية باحتواء الصين وعزلها تسبّب في أن التحديث الصيني لم ينخرط بالتحديث العالمي، وبعد عام 1978 طبّقت الصين سياسة الانفتاح على العالم الخارجي بصورة كاملة، وجعلت بناء التحديث الصيني يدخل عصر الانفتاح الشامل.

وبعد تمركز الصين بقوة كلاعب رئيسي في العالم، أصبح المشهد الدولي مختلفاً، وبالتالي فإن تطوّر أسلوب السياسة الدولية الجديدة وضع أساس تكوين الأسلوب الجديد لتطوير الاقتصاد الدولي، ومنح كل دول العالم الظروف والفرصة المناسبة للانفتاح على العالم الخارجي.

ومما سبق يمكن الاستنتاج أن من حقّ الجميع وبأريحية التحالف مع من يريد، وهذا ما تفعله أفريقيا، ولكن قبل ذلك لا بدَّ من وجود حالة من الاستقرار السياسي في المنطقة قبل المباشرة ببناء خطط اقتصادية مشتركة.

العلاقات الأفريقية الصينية

تعيش القارة الأفريقية منذ فترة ليست بالقصيرة نسبياً حالة من الثورة على الذات، إذ أصبحت تبحث عن شراكات لها علاقة بالجوانب المختلفة، أبرزها الاقتصادي والسياسي مع لاعبين دوليين كبار، والأهم بعيداً عن أوروبا التي استنزفت القارة منذ عقود. 

التقى ما سبق مع الانفتاح الصيني المتزايد نحو العالم والذي غذّته الرؤية العالمية المتمثّلة بطريق الحرير الجديد، ونخص بالذكر هنا الانفتاح الصيني نحو أفريقيا الذي اتصف ببعده التنموي والاجتماعي والتجاري، ويدلل على ذلك مجالات التعاون المختلفة بينهما، وهو ما كان أساس قيام المنتدى الصيني الأفريقي للتعاون عام 2000. 

وجسّد هذا التعاون التقاربُ بين قارتي أفريقيا وآسيا لننتقلَ بذلك من التعاون بين الشمال والجنوب المبنيّ على أساس الاستلاب إلى التعاون بين الجنوب والجنوب المبنيّ على أساس الشراكة.

تذكر جيهان عباس في بحثها عن العلاقات الأفريقية الصينية أن الأخيرة قد تعزّزت تجارياً واستثمارياً، فعلى الجانب التجاري، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري مع أفريقيا، حيث سجّلت التجارة الصينية مع أفريقيا نمواً سريعاً منذ عام 2000، وارتفعت تجارة الصين مع أفريقيا بنسبة 14% على أساس سنوي، لتصل إلى 170 مليار دولار أميركي عام 2017، واستمرت وتيرة النمو السريع حتى النصف الأول من عام 2018، حيث قفز حجم التجارة بنسبة 16% إلى ما يقرب من 100 مليار دولار. 

وفي عام 2020 بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين نحو 187 مليار دولار رغم جائحة كورونا، كذلك الحال بالنسبة لمجال الاستثمار، حيث بلغ الاستثمار الصيني السنوي المباشر في أفريقيا نحو 4.2 مليارات دولار في عام 2020، والتي شملت مجالات مثل التصنيع، والمجال الزراعي والبنية التحتية والخدمات المالية والتنمية الخضراء، وتيسير التجارة والاستثمار، والحد من الفقر والرفاهية. 

أما التعاون الصحي فقد نضج في الوقت الذي انتشرت فيه جائحة "كوفيد 19" في جميع أنحاء العالم، حيث دعمت الصين أفريقيا في مواجهة الوباء، ووصلت إمدادات طبية هائلة تبرّعت بها الحكومة الصينية وشركات صينية على نحو 50 دولة ومنطقة أفريقية، وقد ساعدت تلك التبرّعات التي وصلت في الوقت المناسب في التخفيف من حدة نقص الامدادات الطبية في القارة لمواجهة الوباء، كما تدفّقت من الصين مساعدات بقيمة 280 مليون دولار لدعم دول من القارة الأفريقية في ظل جائحة كورونا، وجاء كثير من هذه الأموال من القطاع الخاص ومن رجال أعمال صينيّين.

ولكن هل تكفي هذه العلاقة المتطوّرة لبناء ترسانة اقتصادية مشتركة بين الطرفين، خصوصاً في حالة التخبّط السياسي الذي عاشته أفريقيا سابقاً؟

لماذا روسيا يجب أن تكون حاضرة وبقوة قبل الصين؟

ينظر الاقتصاديون إلى عدم الاستقرار السياسي على أنه مشكلة خطيرة تضرّ بالأداء الاقتصادي، ومن المرجح أن يؤدي عدم الاستقرار السياسي إلى تقصير آفاق صانعي السياسات مما يؤدي إلى سياسات اقتصادية كلية دون المستوى الأمثل على المدى القصير، وقد يؤدي أيضاً إلى زيادة تواتر تبديل السياسات، مما يؤدي إلى حدوث تقلّبات وبالتالي التأثير سلباً على أداء الاقتصاد الكلي.

ولذلك فإن آثار انتشار ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في العديد من البلدان عبر الزمن، وآثارها السلبية على أدائها الاقتصادي حظي باهتمام العديد من الاقتصاديّين، ووجدوا أن عدم الاستقرار السياسي يؤدي إلى انخفاض النمو الاقتصادي، وفيما يتعلق بالاستثمار أظهرت الدراسات أن عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي يولّد سياسة بيئيّة اقتصادية غير مؤكّدة، مما يزيد المخاطر ويقلّل الاستثمار. 

ويؤدي عدم الاستقرار السياسي أيضاً إلى ارتفاع التضخم، ويؤثر أيضاً على النمو من خلال تراكم رأس المال المادي والبشري، حيث يكون للأول تأثير أكبر قليلاً من الأخير. 

تقطع هذه النتائج شوطاً طويلاً لفهم سبب ضرر عدم الاستقرار السياسي بالنمو الاقتصادي بوضوح، وتشير إلى أن البلدان بحاجة إلى معالجة عدم الاستقرار السياسي، والتعامل مع أسبابه الجذرية ومحاولة التخفيف من آثاره على جودة واستدامة السياسات الاقتصادية المولّدة للنمو الاقتصادي.

ولا تقتصر وجوه عدم الاستقرار السياسي فقط على تبدّل الحكومات والأنظمة، وإنما أيضاً على التبعيّة، إذ تخلق التبعية حالة من الضبابية في اتخاذ القرار لدى الحكومة، تترافق أيضاً مع حالة من الشكل الدائم لدى المستثمرين الخارجيين سواء كانوا دولاً أو أفراداً، تجاه الاستثمار في البلد الذي يتبع لبلد آخر.

ولهذا لا بدّ أن يسبق الدخول الاقتصادي الصيني، على الرغم من أنه قد قطع شوطاً، ضامن سياسي لهذه المشاريع، وذلك بأبعاد أعداء الصين، وهم ذاتهم في الواقع أعداء المشاريع السيادية السياسية المستقلة عن أفريقيا. وكما ذكرنا في مقال سابق على الميادين نت أنّ خير حليف سياسي لأفريقيا هو الاتحاد الروسي لعدد من الأسباب ذكرت في المقال المذكور.

ما يعني أن ضامن الاستقرار السياسي الذي يعتبر الحلقة الأهم للاستثمارات الخارجية هو إحلال الوجود الروسي محلّ الوجود الإمبريالي الغربي، خصوصاً أن هذا الوجود الإمبريالي يروّج لشعوب أفريقيا أن الصين جاءت لتستحوذ على مقدراتهم عبر الوقوع في فخ الديون.

فخ الديون لعبة صندوق النقد الدولي

في كتاب للمؤلف أرنست فولف بعنوان "صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية"، افتتح الكاتب كتابه بما يلي "هذا الكتاب هدية لبني البشر في أفريقيا وآسيا وجنوب أميركا، الذين لا يستطيعون قراءته، لأن سياسة صندوق النقد الدولي قد حرمتهم من الالتحاق بالمدارس".

جاءت هذه المقدمة كوصف للحالة التي يخلقها صندوق النقد الدولي عند دخوله أي بلد كان، صحيح أنه يقرض الدول، ولكن في المقابل تشترط على تلك الدول جملة من الإجراءات التي يجب أن تنفّذها، وأيضاً تتدخّل بالمشاريع التي ستصرف قيمة القرض بها والتي غالباً ما تكون غير مجدية اقتصادياً.

والأمـر الجدير بالملاحظة هو أن صندوق النقد الدولي، ومعـه البنك الدولي، قد تجاهل عـن وعي وإرادة اختبار صواب الليبرالية الحديثة في ضوء النجاحات الباهرة التي حقّقتها دول شرق آسيا. 

وكان هذا التجاهل أمراً طبيعياً في الواقع، فالصين وتايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ، على سبيل المثال، حقّقت ما حقّقت من نجاحات اقتصادية واجتماعية باهرة، على الرغم من عـدم انصياعها لمبادئ الليبرالية الحديثة، لا بل إننا لا نبالغ أبداً، إذا قلنا، إنها حقّقت ما حقّقت من نجاحات اقتصادية عظيمة وانتصارات اجتماعية باهرة، لأنها لم تنصع لمبادئ الليبرالية الحديثة وإرشـادات صندوق النقد الدولي، وشتان بين الموقفين. 

فالدور الذي مارسته الدولة في آسيا فاق بكثير الدور البائس الذي تعيّن على الدولة أن تنهـض به في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بحسب تصوّرات صندوق النقد الدولي. 

إن كل التنبؤات بشأن الدفعة العظيمة التي ستطرأ على النمو الاقتصادي في العالم، وفي الدول النامية بالأخص، إنما كانت حبراً على ورق ورجماً بالغيب؛ فكثير من المحللين كانوا قد نبّهوا الصندوق إلى أن مكاسب النمو ستتوزّع على فئة ضئيلة العدد فقط؛ أما الآخرون، أما الفقراء والمستضعفون، أما البؤساء والعاطلون من العمل فإنهم سيخسرون ما تكسبه هذه الفئة ضئيلة العدد. 

غير أن الصندوق أصرّ على موقفه، فراح يطالب الدول بضرورة إلغاء مزيد من القيود، وتحرير أوسـع، والمضي قدماً في عملية خصخصة مشـاريع عامة من قبيل المستشفيات والمدارس والجامعـات، والموانئ البحرية والجوية، والسكك الحديدية وشركات الطيران الوطنية، وما سـوى ذلك من مرافق عامة استراتيجية، بذريعة مفادها أن نمو الاقتصاد والرفاهية لن يعوّض هذه الشعوب عن التضحيات الناجمة عن هذه الإجراءات فقط، بل سيمنّ عليها بخير يفوق هذا التعويض بكثير. 

على صعيد آخر، تكفّل الصندوق، من ثمّ، برعاية العولمة وبتشجيع دول العالم على تحرير القطاع المالي من التوجيه الحكومي، وذلك من خلال ما صاغه من "برامج تكيّف هيكلي". 

وفيما مهّدت هذه السياسـات الطريق أمام المصارف والشركات العملاقة، الأميركيـة حـصراً، للوصول إلى أقصى ربـوع المعمورة، فإنها أسـفرت في الدول النامية عـن فقر مدقع ومجاعـات قاتلة، وتدهور عظيم في النظامين الصحي والتعليمي، وفي مستلزمات الرعاية الاجتماعية، أي أسفرت عن تدهور مجالات كانت تتصف في كثير من دول العالم الثالث بالتخلّف أصلاً.

ما يعني أنه إذا كان على القارة الأفريقية الحذر من لاعب دولي، فهو بالتأكيد ليس الصين وإنما رعاة المؤسسات المالية الدولية.