الصراع مفتوح في فلسطين.. والأفق حالة عالميّة جديدة

منذ بدأت الصين الصعود الاقتصادي، الذي نافس سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على اقتصادات العالم، بدأت الأخيرة الشعور بالخطر، فراحت ترسم خطط معوّقات لنهوض الصين.

  • لا يمكن اليوم احتساب الصراع على أساس رقعة أرض محلية.
    لا يمكن اليوم احتساب الصراع على أساس رقعة أرض محلية.

من أوكرانيا إلى فلسطين فاليمن، رسمت التطورات خط تماس صراع عالمي، تصطف في الجهة الغربية منه قوى الغرب، من اتحاد أوروبي، وحلف أطلسي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، وفي الجهة الشرقية منه، دول الشرق المتحالفة بهاجس كسر أحادية العالم، وخلق عالم متعدد الأقطاب، متحرّر من سيطرة عملة واحدة على اقتصادات العالم، وعبره على سياساتها.

صراع كبير يجري عند حافتي الخط، ليس مصادفةً، إنما لأنه صراع عالمي، يروق لكثيرين تسميته "الحرب العالمية الثالثة"، ويرى آخرون إنه إرهاصات لتلك الحرب التي يفترضونها مقبلة.

يشبه التحوّل الجاري ما جرى في حِقَب تاريخية سابقة. ففي مراحل معينة سيطرت قوى، ودول، وإمبراطوريات شرقية على العالم، مثل الإمبراطورية الفارسية، والإمبراطورية البيزنطية، والخلافة الإسلامية، بينما سيطرت قوى غربية في مراحل أخرى كالإمبراطوريتين اليونانية والرومانية. ونتيجة ذلك، كانت السيطرة على العالم القديم تتناوب بين دول غربية، وأحياناً أخرى بين دول شرقية.

منذ بدأت الصين الصعود الاقتصادي، الذي نافس سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على اقتصادات العالم، بدأت الأخيرة الشعور بالخطر، فراحت ترسم خطط معوّقات لنهوض الصين، ساعية للوصول، عسكرياً وأمنياً وسياسياً، إلى الشرق الأقصى عبر بوابة الشرق الأوسط، فأحدثت ما عرف بـ"الربيعات" العربية التي أحلّت بالسلطات المحلية قوى موالية بالتمام والكمال لها، ونموذج مصر في حالتها الأخيرة هو الأفضل.

محاوِلةً التقدم في اتجاه شرقي المتوسط، وتحديداً على خط لبنان – سوريا - العراق، استهدفت الولايات المتحدة وتحالفها دول المنطقة غير المنضوية تحت السيطرة الأميركية بالكامل، وخصوصاً سوريا، وإيران، وروسيا التي كانت في سبات ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وفي دوّامة الصراع الذاتي للخروج من تداعيات ذلك السقوط المريع، بلوغاً لمرحلة استشعار الخطر الداهم مع تهديد الوضع بالانهيار في سوريا، واقتراب التحالف الغربي إلى الحدود الروسية.

لأسباب تاريخية تحمل عدداً من التفسيرات، والاحتمالات، دخلت روسيا بقيادة الرئيس بوتين على خط الصراع، تتصدى للزحف الغربي في اتجاه الشرق. ونجحت روسيا، وحلف المقاومة، في كبح جماح الزحف الغربي، وفي المجابهة بين غرب زاحف شرقاً، وشرق صاعد بموضوعية، محاولاً منع تقدم أعدائه، فتنفجر أزمة أوكرانيا بانقلاب 2014، ثم دخول روسيا الدفاعي في حرب أوكرانيا، لتندلع المواجهات بقوة غير مسبوقة، وتصطف فيها الدول على شكل اصطفافات الحربين العالميتين الأولى والثانية.

مع تقدم الروس في أوكرانيا، وفي محاولة للالتفاف على ذلك التقدم، تتقدم الولايات المتحدة الأميركية بمشروع طريق الهند – الخليج - فلسطين المحتلة استباقاً لخط الحرير والحزام الصيني، كجزء من خطتها عرقلة نهوض الصين، فيحدث أن يقع "طوفان الأقصى" الذي وجّه ضربة قاصمة إلى رأس الحربة الصهيو -أميركية، أي الكيان الإسرائيلي، وثمة من رأى في الطوفان ضربة لمشروع الهند - فلسطين المحتلة.

إزاء الضربة الكبرى التي تلقاها المشروع الصهيو -أميركي في طوفان الأقصى، لم يكن أمام الصهيو -أميركي إلّا المجازر التي ارتكبها في غزة لتغطية فشله المصيري. فقامت الدنيا، ولم تقعد أمام هول المجزرة، الأمر الذي حدا بالأميركي - الصهيوني البحث عن بدائل منقذة لماء الوجه، فراح يضغط بالتهويل، وبتوظيف دول الطوق (ما عدا سوريا)، لتعويض خسائره، وتشليح المقاومة ما كسبته في الحرب، إن في عملية "طوفان الأقصى"، أو عبر الصمود الأسطوري في غزة.

دُمِّر قسم كبير من غزة، وسقط عشرات آلاف الشهداء المدنيين الأبرياء، لكن المقاومة ظلت صامدة، متماسكة، وظنّ كثيرون أن الوحشية ضد الأبرياء حققت نصراً للصهيوني، غير مدركين أن المجازر ما هي إلا هزيمة جديدة له.

كل حرب يفترض أن تنتهي باتفاقية، لكن المفاوضات بشأن غزة تعرقلت إلى حدٍّ بعيد، فالمقاومة تعرف أنها وجهت ضربات قاصمة إلى العدو، وبالتالي ليس عليها التنازل، وتحقيق مطالب الصهاينة، وخصوصاً إطلاق سراح المعتقلين في "طوفان الأقصى" من الصهاينة، وفي المعارك التي خاضتها المقاومة.

وظّفت القوى الصهيو - الأميركية ما لديها من قوى وفئات وإعلام للتهويل على المقاومة بضربات صهيونية. ظن حلفاء الصهيونية أنهم واصلون إلى مبتغاهم، لكن حكمة قادة المقاومة تدرك تماماً أن كل ما يحكى عن ضربات ليس إلا تهويلاً، بينما يعاني العدو كثيراً من المشاكل الداخلية منذ ما قبل الطوفان، وبعده، وما الخلاف مع الحريديم سوى نموذج عن الواقع الإسرائيلي المتأكِّل.

كما تحل خلافات في وجهات النظر بين السلطتين الأميركية والإسرائيلية لتفاقم، ولو موقتاً،  الخلاف في تحالفهما.

وتتصاعد نبرة رئيس وزراء العدو مهدِّداً باجتياح رفح، وتهجير أهلها المهددين بمجازر شبيهة بمجازر غزة، وسط تواطؤ عربي، وتجنّب لدخول الصراع المباشر للباقين من الدول، الأمر الذي يدفع كثيرين إلى الاعتقاد أن العدو سيربح، والمقاومة منهزمة.

ترتفع وتيرة التهديد، بمشاركة القوى الملحقة بالتحالف، وبإعلام موظّف خصيصاً لهذه الغاية، حتى إنه بات ينطق باسم العدو، ويتكلم وكيلاً عنه.

لكن المقاومة بالمرصاد، والتفاوت بين قوات حربية كلاسيكية، وقوى أشبه بقوى حرب العصابات على الطريقة الفيتنامية، لا تعطي أفضلية للقوات الصهيونية التي تعاني مآزق متعددة، ولم يسبق أن تلقّت أضراراً وضربات مثلما تلقت منذ طوفان الأقصى.

لا يمكن اليوم احتساب الصراع على أساس رقعة أرض محلية، أو قرية أو مدينة بالناقص أو بالزائد، وإنما كصراع على انقلاب الدور العالمي، بين قوى بدأت التراجع، وقوى صاعدة يرجّح لها التقدم، والانتصار في نهاية المطاف، لأن المقاومة في غزة، ورفح، وجنوبي لبنان، والعراق، وسوريا، واليمن، ما هي سوى رافد لهذا المسار الصاعد إلى حالة عالميّة جديدة.