الاعتراف الأميركي بالصين كقطب ثانٍ بعد قمتي العشرين وآيبك
تعهدت الولايات المتحدة ودول جزر المحيط الهادي بتعزيز شراكتهما، وسط مخاوف دوائر صنع القرار الأميركي من تعاظم دور الصين المحوري في المنطقة.
قمة سياسية بامتياز وإن غلفوها بطابع اقتصادي، وما أكثر الأحداث التي أثبتت الجوهر السياسي لقمة العشرين الاقتصادية، اللقاء بين الصين وأستراليا بعد 5 سنوات من القطيعة، واللقاء بين الصين وفرنسا، والأهم لقاء الرئيس الصيني الرئيس الأميركي بعد قيام الأخير بالتمهيد لهذا اللقاء عبر دعوته إياه مصرّحاً في قمة آسيان، بضرورة فتح قنوات التواصل مع الصين حتى لا يصل الأمر حد التصادم مع الإبقاء على حال التنافس بينهما مستمرة على أشدها.
هذا النداء العقلاني الغريب من نوعه على الرغم من إطلاق وزير الخارجية الصيني نداءات التهدئة والعقلانية في كلمته أمام الجمعية العامة بالأمم المتحدة، وكذلك في أثناء زيارته نيويورك ومقابلة كسنجر، حيث دعا أيضاً إلى التهدئة وتجنب التصعيد، ولكن لم تلقَ دعواته أي جواب من قبل الطرف الأميركي، ومن هنا نبعت غرابة تصريحات الرئيس الأميركي التي تحققت في قمة العشرين، حيث التقى الرئيس الصيني الذي أكد بدوره ضرورة بذل الجهود لتحقيق السلام والاستقرار العالمي، وهنا المفارقة بخصوص الموقف الأميركي، إذ صدرت في 22 تشرين الأول/أكتوبر2022، استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي وصفت بكونها الأولى من نوعها في عهده.
هذه الاستراتيجية تضمنت تحديد الصين اعتبارها المنافس الأول لأميركا، وتخوّفت من زعمها تغيير الصين النسق السائد في النظام الدولي، بالاستناد إلى إمكانياتها الاقتصادية والعسكرية، هذا ولم تقف الاستراتيجية الأميركية عند هذا الحد بل ذهبت إلى تحديد جملة من أدوات التأثير في أمن الصين من قبيل إثارة ملف حقوق الإنسان، والتلاعب بأمن تايوان، حيث يمثّل الإصرار الأميركي على تنفيذ خطته بخصوص هذه الملفات الحساسة تهديداً مباشراً للأمن القومي الصيني، ولعل هذا ما دفع الرئيس الصيني إلى ارتداء الزي العسكري الذي أخاف أعداء الصين، إضافة إلى الأمر الأهم ألا وهو أنّ المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني، كان الأول من نوعه، من حيث الانطلاق الفعلي في اتجاه تقوية القوات المسلحة الصينية وتعزيزها، إذ إن الأولوية كانت للأمور الاقتصادية في المؤتمرات السابقة من حيث التأكيد والتشديد.
ولقد وصل الأمر بالرئيس الصيني إلى درجة إعطاء أوامر بتجهيز جيش التحرير الصيني للاستعداد للقتال، لاسيما بعد سلسلة الاستفزازات الأميركية التي توجّت بزيارة بيلوسي لتايوان وغيرها من المسؤولين الأميركيين، ما عدته الصين تحدياً صارخاً لها وانتهاكاً لسيادتها وتدخّلاً في شؤونها الداخلية، لتنطلق بعد ذلك سلسلة من المناورات العسكرية الضخمة وجملة من الإنذارات الدبلوماسية للأميركيين لتجنّب إثارة التوترات بخصوص تايوان، علماً أن أهداف الولايات المتحدة الأميركية دعم انفصال تايوان ومنع الصين من استردادها تتجاوز مسألة التلاعب بأمن الصين، هذا الفخ الذي لم تقع فيه الصين على غرار الفخ الاستراتيجي الذي نُصب لروسيا عبر أوكرانيا.
وفي المجمل فإن تصريحات الرئيس الأميركي بايدن بعد صدور استراتيجية الأمن القومي حيال فتح الحوار مع الطرف الصيني تجنباً للصراع يعني أمرين: إما مناورة سياسية، وإما عكس مسار سياسي اتجاه سياسي، وفي الحقيقة ما هي إلا مناورة سياسية لتحقيق تخفيف التوتر الحاصل مع الصين مخافة أن يتحوّل هذا التوتر إلى صراع عسكري لا تحمد عقباه، إذ ستطال مخرجاته السلبية في حال وقع العالم عموماً لنحكم بعد هذا المقال باستمرار التنافس الاقتصادي بين الصين وأميركا بالتوازي مع تجنّب السيناريو العسكري بين العملاقين العالميين.
يذكر أن مؤتمر آيبك الذي جاء عقب قمة العشرين شكّل فرصةً أخرى لتلافي التوترات السياسية بين الطرفين الصيني والأميركي في منطقة لمنطقة آسيا- الباسيفيك، بوصفها منطقة ساخنة بينهما، وذلك عبر تعزيز التعاون والتنمية وتبنّي نهج سلمي يعزز السلم والاستقرار من خلال وضع الخطط لتعزيز النمو الاقتصادي والتعاون والتجارة والاستثمار في آسيا والمحيط الهادئ بغية الوصول إلى مستوى متقدّم من النمو الاقتصادي في ظل الظروف الدولية المتوترة، التي سبق أن شهدت محاولات أميركية لترسيخ وجودها في هذه منطقة آسيا-الباسفيك، حيث لم تمضِ بضعة أشهر على صدور إعلان خطر عن البيت الأبيض الأميركي جاء فيه: "أن قادة المحيط الهادئ، يرحّبون بالتزام الولايات المتحدة تعزيز مشاركتها، بما في ذلك من خلال توسيع وجودها الدبلوماسي، والعلاقات بين شعوبنا، والتعاون الإنمائي للولايات المتحدة في جميع أنحاء المنطقة".
فقد سبق أن تعهدت الولايات المتحدة ودول جزر المحيط الهادي بتعزيز شراكتهما، وسط مخاوف دوائر صنع القرار الأميركي من تعاظم دور الصين المحوري في المنطقة، والجديد في هذا المضمار أن الدول التي تعوّل عليها الولايات المتحدة الأميركية ترفض أن تكون رأس حربة في حرب أميركا على الصين، ما يحتم غلبة منطق التعاون الاقتصادي على منطق التصعيد العسكري، حيث تتّسع اليوم مساحة التعايش السلمي على حساب التنافس والتوتر العسكري، ولعل ركون الأميركي إلى فتح قنوات الحوار مع الصيني ينطوي على اعتراف أميركي غير مباشر بالثنائية القطبية الصاعدة.