استراتيجية المقاومة بين حسابات الخسائر وتكتيك النصر
الحرب الحالية ليست مجرد معركة عسكرية، بل هي صراع طويل الأمد يهدف إلى تفشيل المشاريع الاستعمارية وإعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة.
من بين الأسئلة التي تطرحها المقاومة في الشارع اللبناني والفلسطيني والعربي، السؤال المحيّر حول سبب تأخّر الحزب في دخول الحرب بشكل واسع منذ البداية، ولماذا لم يستخدم كلّ قوته في اليوم الأول.
البعض يتساءل عن صحة قرار الدخول المحدود والمساندة، وما إذا كان يجب على الحزب التنديد فقط أو الدخول بشكل مباشر وكامل منذ اللحظة الأولى. هذه الأسئلة المشروعة يمكن أن نبدأ بالإجابة عنها عبر فهم أعمق للسياق الاستراتيجي والواقع الجيوسياسي المحيط.
جذور الصراع والمشروع المرسوم مسبقاً
الصراع الذي نراه اليوم ليس وليد اللحظة، بل هو جزء من مخطط أكبر بدأت ملامحه منذ عقود طويلة. بعد الحرب العالمية الثانية، جاءت اتفاقية "سايكس بيكو" ووعد بلفور كمقدّمة لتأسيس "الدولة" اليهودية الموعودة. طموحات "إسرائيل" في "أرض الميعاد" من النهر إلى النهر لم تكن سرّاً، بل كانت جزءاً لا يتجزّأ من المشروع الصهيوني، الذي دعمته القوى الغربية وعلى رأسها بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة.
الولايات المتحدة، التي تعدّ الحاضن الأكبر لـ "إسرائيل"، لديها مصالح جيوسياسية واقتصادية في المنطقة، أبرزها الحفاظ على استقرار منطقة الشرق الأوسط لضمان استمرار تدفّق الموارد الطبيعية الهامة، ولمواجهة القوى العالمية الكبرى مثل روسيا والصين.
استراتيجيات الغرب الثلاث لتنفيذ مشاريعه
الغرب، بقيادة الولايات المتحدة و"إسرائيل"، يعتمد على ثلاث طرق أساسية لتنفيذ مشاريعه:
1. استغلال الأحداث القائمة: مثل أحداث 11 أيلول/سبتمبر التي استخدمتها الولايات المتحدة كذريعة لشن الحرب على أفغانستان، مما أدى إلى تعزيز وجودها العسكري في المنطقة.
2. خلق الذرائع: كما حدث في غزو العراق تحت ذريعة امتلاك أسلحة دمار شامل، وهو أمر لم يتمّ إثباته.
3. التحضير المسبق: تكون الخطط جاهزة بانتظار الفرصة المناسبة، مثلما حدث مع مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي كشفت عنه كونداليزا رايس أثناء حرب 2006.
الانسحاب التكتيكي والمواجهات المتواصلة
عندما انسحب الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، كان ذلك جزءاً من تكتيك طويل الأمد. "إسرائيل" لم تنسحب لأنها أُجبرت فقط، بل كانت تعدّ العدّة للعودة بقوة أكبر من خلال حرب 2006. هذه الحرب كانت محاولة لتطبيق مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي كان يستهدف إعادة رسم خريطة المنطقة، إلا أن المقاومة اللبنانية نجحت في إفشال هذا المخطط.
بعد الهزيمة الإسرائيلية في 2006، بدأت قوى الغرب و"إسرائيل" بالتفكير في طرق أخرى لتطويق المقاومة. تمّ ذلك من خلال استهداف سوريا، الدولة الحليفة للمقاومة اللبنانية، ومحاولة محاصرة الحزب بين "إسرائيل" من الجنوب، و"داعش" من الشرق، دخل الحزب الصراع آنذاك وأفشل المشروع.
محاصرة لبنان وتقليب الداخل ضد حزب الله
إلى جانب المواجهات العسكرية المباشرة، لم يتوقّف المشروع الأميركي–الإسرائيلي عند حدود المواجهة المسلحة. بل سعت تلك القوى، عبر حلفائها المحليين في لبنان، إلى تقليب الرأي العام اللبناني ضد حزب الله، وذلك من خلال محاولات مستمرة لربط الأزمات الاقتصادية والسياسية بالحزب. هذه الجهود تمثّلت في إشعال التوترات الداخلية وخلق أزمات معيشية خانقة، هدفها الأساسي كان تقويض نفوذ الحزب وتشويه صورته كقوة مقاومة.
المشروع الغربي ركّز على محاصرة لبنان اقتصادياً، عبر فرض عقوبات وضغوط دولية أدت إلى انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق. هذا الحصار هدف إلى تحميل حزب الله المسؤولية عن هذه الأزمات، وتصويره كالعائق الرئيسي أمام الاستقرار والازدهار في لبنان. حلفاء الغرب في الداخل اللبناني لم يتوقّفوا عن تصعيد الخطاب الطائفي والمناطقي بهدف خلق فتنة داخلية تؤدي إلى تفكيك النسيج الاجتماعي، وبالتالي إضعاف الحزب وإبعاده عن تأدية دوره المحوري في محور المقاومة.
إلا أن حزب الله كان على وعي تامّ بهذه المخططات، وواجه تلك التحديات من خلال استراتيجيات دفاعية متينة، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي. كما سعى إلى تخفيف وطأة الأزمات الاقتصادية من خلال تقديم مساعدات اجتماعية وخدماتية للأكثر تضرراً من الفئات الشعبية، وبالتالي إحباط محاولات العزل الداخلي وتقليب الشارع اللبناني ضده.
الممر الهندي – الإسرائيلي
من ضمن المخططات الجيوسياسية التي تعزّز السيطرة الغربية – الإسرائيلية على المنطقة هو الممر الهندي إلى أوروبا عبر "إسرائيل". هذا الممر يعدّ جزءاً من مشروع استراتيجي يهدف إلى تعزيز الربط التجاري بين الهند وأوروبا، عبر "إسرائيل" ودول الخليج، مما يجعل "إسرائيل" محوراً رئيسياً في التجارة العالمية.
هذا المشروع يعزّز من مكانة "إسرائيل" كقوة اقتصادية وجيوسياسية في المنطقة، ويوفّر لها شبكة دعم لوجستي واسعة تمكّنها من تعزيز هيمنتها. الاتفاق على هذا الممر كان جزءاً من ترتيبات طويلة الأمد بدأت تتبلور بوضوح في عام 2019.
عملية "طوفان الأقصى"
عملية "طوفان الأقصى"، التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، كانت ردّاً على تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وقطاع غزة، إلى جانب محاولات فرض واقع جديد في القدس. العملية حقّقت نجاحات ميدانية ملحوظة في ضرب العمق الإسرائيلي، وشكّلت صدمة كبيرة داخل "إسرائيل" وخارجها، حيث أظهرت قدرات المقاومة المتزايدة في تنفيذ عمليات نوعية داخل الأراضي المحتلة.
إلا أن "إسرائيل"، بدعم من الولايات المتحدة، استغلت هذا الحدث بشكل مكثّف على الصعيد الدولي. استغلت الصور والمشاهد التي نتجت عن الهجمات لترويج روايتها المظلومية، محاولة استعطاف المجتمع الدولي، وتسويق ردّها العسكري تحت شعار "محاربة الإرهاب". وكما هو الحال في استراتيجياتها السابقة، سعت إلى توظيف هذه الأحداث كذريعة لتبرير تصعيدها العسكري ليس فقط ضد غزة، بل أيضاً لمحاولة فرض مخططاتها الإقليمية على الأرض.
هذه الحملة الإعلامية والسياسية لم تكن عشوائية، بل كانت جزءاً من تكتيك دائم تعتمده القوى الغربية والإسرائيلية في استغلال الأحداث أو صنع الذرائع لتنفيذ مشاريعها الكبرى. كما حدث سابقاً في العراق وأفغانستان، فإن عملية "طوفان الأقصى" تمثّل فرصة لـ "إسرائيل" وحلفائها لترويج مخططاتهم الاستراتيجية في الشرق الأوسط، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمشاريع كبرى كالممر الهندي وخلق تحالفات إقليمية جديدة.
المقاومة والميدان
في ظلّ هذا الواقع، كانت المقاومة في لبنان تدرك أن الحرب مقبلة سواء شاركت في البداية أم لا. بعض المحللين الأعداء وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين أعلنوا بوضوح أن الدور سيأتي على المقاومة في لبنان عاجلاً أم آجلاً. دخول المقاومة في الحرب بهذه الطريقة هو استراتيجية مدروسة تهدف إلى كسب الوقت، استنزاف العدو، وتفشيل المخططات الغربية بالنقاط.
الحزب يملك خبرة طويلة في التعامل مع العدو الإسرائيلي، ويعرف تماماً متى وأين يوجّه ضرباته. ما يراه البعض تدرّجاً في استخدام القوة هو في الواقع جزء من استراتيجية عسكرية تهدف إلى إطالة أمد الصراع لتحقيق مكاسب أكبر على المدى الطويل.
الإجابة في الميدان
المقاومة في لبنان ليست فقط مراقباً للأحداث، بل هي عنصر فاعل قادر على تغيير المعادلة. الحزب يعلم تماماً متى يقصف حيفا وما بعدها، ومتى يضرب مطارات العدو أو أهدافه الاستراتيجية ومتى يدمّر مباني في "تل أبيب". كلّ خطوة تُحسب بدقة وفقاً لحجم التهديدات والمشاريع التي يواجهها.
الخسائر الحالية قد تكون أكثر فداحة، ورغم أننا نرى هذه الخسائر كبيرة، إلا أنها بمقياس لما كان مُحضَّراً ومجهّزاً تُعدّ أقلّ بكثير. إذ إننا نحارب دولاً عالمية، وليس "إسرائيل" فقط. ما يفعله اليوم الإسرائيلي والأميركي يمكن أن يكون أكثر عنفاً لأنهما يعتمدان نظام الإجرام الكامل. الحزب أخذ بعين الاعتبار كل هذه الأمور لكسب المعركة وتحجيم الخسائر قدر الإمكان، ولو كان ذلك على حساب عناصره وقادته.
الحزب صرّح علناً أنه يكسب بالنقاط، لأن الضربة القاضية غير ممكنة، وكان هذا أول تصريح للأمين العام خلال عملية "طوفان الأقصى". اليوم، بعد أن استخدم الإسرائيلي كل أهدافه العسكرية، بدأ يضرب الأماكن السكنية المأهولة ويدمّر مباني مدنية، وبدأ يضغط بالخسائر البشرية على الحزب. هذه المؤشرات تعكس إفلاس المحور الأميركي-الإسرائيلي، والحزب حتى الآن، ورغم الضربات التي آلمت العدو، لا يزال يخفي المزيد من قوته لحسم المعركة في اللحظة المناسبة، وهذا هو تكتيك النصر.
الضغط كبير، وحجم المعركة مصيري للبنان، وبيئة المقاومة، وللمنطقة بأكملها. ضخامة المشروع المحضّر والعناصر المفاجئة وكبر الهجمة من دول عديدة، بالإضافة إلى واقع القوى، يفرض ويقتضي التعامل بهذه الطريقة من قبل المقاومة.
وفي النهاية، تبقى الإجابة عن جميع التساؤلات مرهونة بنتائج الميدان. الحرب الحالية ليست مجرد معركة عسكرية، بل هي صراع طويل الأمد يهدف إلى تفشيل المشاريع الاستعمارية وإعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة. الميدان سيبقى الحكم الأخير على ما ستؤول إليه الأمور، وسيثبت مرة أخرى أن المقاومة قادرة على قلب المعادلة، كما فعلت في 2006.