أوكرانيا وتصدير الأزمات.. من استهداف أنابيب الغاز إلى تأجيج الصراعات الأفريقية

تتصاعد تقارير دولية حول دعم أوكراني لجماعات مسلحة في عدة مناطق أفريقية هشّة، عبر توريد الأسلحة والطائرات المسيّرة وتقديم التدريبات العسكرية، ما يزيد من تعقيد الأوضاع الأمنية هناك.

  • أوكرانيا تهدد المصالح الأوروبية.
    أوكرانيا تهدد المصالح الأوروبية.

في منعطف خطير يثير التساؤلات، يتشعب الصراع الأوكراني ليرسم خريطة مواجهة جديدة تتجاوز الحدود المباشرة مع روسيا، إذ تتراكم الاتهامات والوقائع التي تشير إلى تورط أوكرانيا في عمليات تستهدف مصالح أطراف دولية أخرى واستقرارها.

تبرز هذه التحولات من خلال محورين استراتيجيين: استهداف البنى التحتية للطاقة في أوروبا، وتقديم الدعم العسكري لجماعات مسلحة في أفريقيا، ما يضع أوكرانيا في موقف يتعارض مع مبادئ الأمن الجماعي والدولي.

فعلى صعيد الطاقة، تتجه أصابع الاتهام إلى أوكرانيا في ما يخص الهجمات المتكررة على منشآت نفطية وغازية حيوية، مثل خطي "دروجبا" و"نورد ستريم"، والتي تعدّ أساسية لأمن الطاقة الأوروبي. هذه الهجمات لا تهدد الاستقرار الاقتصادي لأوروبا فحسب، بل تثير أيضاً استياءً ودعوات متصاعدة للمحاسبة دولياً.

بالتوازي، تتصاعد تقارير دولية حول دعم أوكراني لجماعات مسلحة في عدة مناطق أفريقية هشّة، عبر توريد الأسلحة والطائرات المسيّرة وتقديم التدريبات العسكرية، ما يزيد من تعقيد الأوضاع الأمنية هناك، ويفتح الباب أمام مواجهات إقليمية أوسع.

هذه التطورات تضع المجتمع الدولي أمام تحديات جديدة، وتدفع نحو إعادة تقييم التداعيات الاستراتيجية لهذا الصراع، وتأثيره على منظومة الأمن والاستقرار العالميين.

أوكرانيا تهدد المصالح الأوروبية

تداولت الصحف الغربية والعالمية خبر قيام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإبلاغ رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان غضبه الشديد إزاء استهداف بنية تحتية حيوية.

بالتوازي مع ذلك، تمثل الاستهدافات المتكررة التي تنفذها أوكرانيا لخط أنابيب النفط "دروجبا" - الشريان الرئيسي لنقل النفط الخام الروسي إلى دول أوروبا الشرقية كالمجر وسلوفاكيا - خطراً مباشراً على أمن الطاقة الأوروبي والاستقرار الاقتصادي العالمي.

وقد أدّت هذه الهجمات المتعمّدة ضد البنى التحتية للطاقة إلى استياء الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي نقل امتعاضه صراحة إلى رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان. في المقابل، بادرت حكومتا البلدين المتضررين، المجر وسلوفاكيا، في تقديم طلب مشترك إلى المفوضية الأوروبية يطالب بالضغط على أوكرانيا لإيقاف هذه العمليات، محذّرتين من أن استمرارها يعرض إمدادات الطاقة فيهما للخطر، ويؤدي إلى تعطيل الشحنات لأيام عدة، ما يبرز التداعيات الممتدة لهذه الهجمات التي تتخطى التأثير المحلي مهددةً استقرار سلاسل إمداد الطاقة في كامل المنطقة.

لا تقتصر الهجمات الأوكرانية على البنى التحتية للطاقة ضد المصالح الأوروبية على استهداف خط "دروجبا"، بل تمتد إلى عمليات أكثر تدميراً، كما حدث عام 2022 عندما استهدفت تفجيرات مدبّرة خطي أنابيب الغاز الاستراتيجيين "نورد ستريم 1" و"نورد ستريم 2" في بحر البلطيق، ما تسبب بأضرار جسيمة وأشعل أزمة دبلوماسية دولية.

وفي تطور خطير، ضربت أوكرانيا أول أمس محطة كورسك للطاقة النووية، ما أدى إلى انخفاض توليد الكهرباء، كما أغلقت محطة تصدير الغاز المسال بالقرب من سانت بطرسبرغ، والعديد من المطارات في الجزء الأوروبي من روسيا بسبب هجمات بطائرات من دون طيار، ما أثر على حركة حتى المطارات العاملة. 

وفي عملية إجرائية متصلة بهذه القضية، ألقت السلطات الإيطالية القبض مؤخراً على مواطن أوكراني في شمال إيطاليا بموجب مذكرة توقيف أوروبية، يُشتبه في كونه أحد منسقي عملية التفجير التي هزت استقرار إمدادات الطاقة لأوروبا. وقد سلمت إيطاليا المشتبه به إلى السلطات الألمانية، حيث من المقرر أن يقدم إلى القضاء، في خطوة تُعد أول اعتقال مرتبط بهذه الحادثة التي لا تزال التحقيقات جارية حول خلفياتها وتداعياتها على المشهد الجيوسياسي الأوروبي.

التدخلات الأوكرانية في القارة الأفريقية

في إطار التوسع الجغرافي للصراع، تتزايد الأدلة والاتهامات الدولية التي تُشير إلى تورط أوكرانيا في دعم جماعات مسلحة في أفريقيا ضمن حروب بالوكالة. فوفقًا لتقارير استخبارية واتهامات رسمية من حكومات أفريقية، تقوم كييف بإمداد جماعات مسلحة في دول مثل مالي والسودان وبوركينا فاسو بالأسلحة والطائرات المسيرة، إلى جانب إرسال مدربين عسكريين وتقديم دعم استخباري.

وقد أدت هذه الممارسات إلى قطع مالي للعلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا، بينما اتهمها السودان رسميًا بتعميق الأزمات الداخلية عبر تسليح الجماعات المسلحة. ويبدو أن الهدف الاستراتيجي من هذه العمليات هو تقويض النفوذ الروسي في القارة الأفريقية وفتح جبهات جديدة ضد مصالح موسكو، ما يحوّل المنطقة إلى ساحة صراع جيوسياسي تدفع ثمنه الدول الأفريقية.

وفي تطور جديد يكشف عن امتداد هذا النمط من العمليات، نقلت "المصري اليوم"، عن تقارير إعلامية وتصريحات مسؤول ليبي سابق، أن أوكرانيا قامت بإدخال أكثر من 20 طائرة مسيرة قتالية إلى ليبيا عبر مطار طرابلس الدولي القديم، بدعم من خبراء أوكرانيين مهمتهم تدريب قوات حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة.

وتشير الأدلة إلى تورط الملحق العسكري الأوكراني في الجزائر "اندري بايوك" كمنسق عام لهذه العمليات، ما دفع السلطات الجزائرية إلى فتح تحقيق في أنشطته لاستغلاله الحصانة الدبلوماسية في عمليات تهريب تهدد الأمن القومي.

هذا الدعم العسكري المباشر يُظهر استراتيجية أوكرانية واضحة لتعزيز النفوذ عبر دعم أطراف متحاربة في مناطق هشة، ما يعمّق من تعقيد المشهد الجيوسياسي في أفريقيا، ويؤجج الصراعات الداخلية.

وفي تصعيد دبلوماسي جديد، كشف دميتري بوليانسكي، القائم بأعمال مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، عن "حقائق محددة" تثبت تورط أجهزة المخابرات الأوكرانية - بما فيها المديرية العامة للمخابرات التابعة لوزارة الدفاع - في عمليات تسريب الأسلحة الغربية إلى جماعات إرهابية.

وأشار بوليانسكي إلى أن هذه الأسلحة تتسرب إلى مناطق نشاط تنظيمي "داعش" و"القاعدة"، مع تركيز خاص على دول الساحل الأفريقي حيث تقوم الأجهزة الأوكرانية بتزويد المسلحين بالأسلحة والطائرات المسيّرة، وتدريبهم على استخدامها، وتنسيق أعمال إرهابية لجماعات مثل "نصرة الإسلام والمسلمين" في مالي.

وطالب الدبلوماسي الروسي بإجراء "تحقيق دولي شامل" بمشاركة آليات الأمم المتحدة المختصة للكشف عن هذه الأنشطة التي تهدد الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي.

في الأثناء، وافقت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على بيع 3350 صاروخًا هجوميًا بعيد المدى (ERAM، يصل مداه إلى 450 كيلومترًا) لأوكرانيا؛ ومن المقرر تسليمها للقوات المسلحة الأوكرانية خلال ستة أسابيع، وفقًا لصحيفة "وول ستريت جورنال". تبلغ تكلفة حزمة الأسلحة 850 مليون دولار، وتشمل أيضًا "معدات أخرى"، بالإضافة إلى الصواريخ. وقد غطت الدول الأوروبية معظم التكاليف. 

ويبدو أن الغرب يسعى إلى زيادة عدد ومدى الطائرات من دون طيار بشكل كبير بالقرب من أوكرانيا، والتي تُستخدم لشنّ هجمات على البنية التحتية الروسية للطاقة والنقل. ووفقًا لتقديرات أوكرانية، تمكّن الأوكرانيون حتى الآن من إلحاق الضرر بنحو 13% من طاقة مصافي النفط الروسية. والجدير بالذكر أن هذا ليس رقمًا حاسمًا، بالنظر إلى إمكانية استعادة القدرة على التشغيل، ولكن يُمكن الافتراض أنه إذا عزز الغرب قدرات أوكرانيا مرات عدة، فسيتمكّن بعد فترة من خلق مشكلات للاقتصاد الروسي. 

في المقابل، يبدو أن الولايات المتحدة تضغط على بوتين في محاولة لإجبار روسيا على تخفيف موقفها، وبطبيعة الحال، لن يؤدي هذا الوضع إلى تخفيف موقف موسكو، بل إلى تصلبه، وتصعيد الحرب من جانبها بهدف القضاء السريع على أوكرانيا، بما في ذلك التدمير الكامل للبنية التحتية للبلاد، وهو ما امتنعت عنه موسكو حتى الآن. وهكذا، مهما فعل ترامب، فإنه سيعود إلى وضع بايدن (عندما استُنفدت جميع سبل الضغط على بوتين، وأصبح من الضروري بدء مواجهة مباشرة مع روسيا). 

ويفترض أنه في ظل تصلب الموقف الأميركي في سياق انتخابات الكونغرس، سنشهد خلال العام القادم تصاعداً ملحوظاً في المواجهة بين روسيا والغرب، بقيادة أميركية. وبالتالي، لن تُفضي ألاعيب ترامب حول التسوية الأوكرانية إلى أي شيء، ومن الممكن أن يكون الحديث عن توقف الدعم الأميركي لأوكرانيا سابق لأوانه، في الوقت الذي يتصرف فيه ترامب وفق نموذج بايدن، ويبدو أن الوقت حان للتوقف عن الالتفات إلى أقوال ترامب والاكتفاء بالأفعال..فالتصعيد قادم..

وقد شبّه الرئيس الأميركي دونالد ترامب محاولة الجمع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني بمحاولة "خلط الزيت بالماء"، معتبراً الأمر بالغ الصعوبة، ورغم هذا التشبيه السوداوي، أشار ترامب إلى إمكانية بحث سبل التعاون بين الرئيسين لإنهاء الحرب، تاركاً بذلك الباب موارباً، وحتى اللحظة لم تنجح مساعي واشنطن لتحقيق السلام في أوكرانيا، فموسكو تشدد على عدم الدخول في لقاءات قد تتحوّل إلى سجال سياسي من دون نتائج ملموسة، فيما اتهمتها كييف بعرقلة أي مسار سياسي، مطالبة بفرض "عقوبات جديدة" على موسكو في حال لم تُبد أي نية حقيقية لإنهاء حربها، في لهجة تعكس يأس كييف من إمكانية تحقيق اختراق دبلوماسي قريب، وتكشف عن توجهها نحو الضغط عبر الأدوات الغربية والعقوبات الدولية بدلاً من انتظار تنازلات روسية لا تبدو وشيكة.

وبين هذين الموقفين، وجد ترامب نفسه أمام واقع معقد لا يملك سوى محاولة تحريك مياهه الراكدة، فبالنسبة إلى ترامب، يبدو أن الأمر هو اختبار جديد لمهاراته السياسية، واللافت هنا أن ترامب يحاول الحفاظ على موقعه كوسيط محتمل من دون أن يغامر بالانخراط المباشر، لكنه في حال التوافق بين روسيا وأوكرانيا سيحضر ليظهر أنه صانع السلام. وهذا الدور بالنسبة له ليس تفصيلاً، بل ورقة سياسية مهمة، باعتبار أن ترامب يسعى لاستثمار أي فرصة لتعزيز صورته كقائد قادر على حل الأزمات العالمية، وفي الوقت نفسه، يدرك أيضاً أن أي فشل في هذه المهمة قد ينعكس سلباً على رصيده السياسي، وهو ما يفسر حذره في الالتزام العلني بالمشاركة.

كما يبدو واضحاً تململ الغرب من التصرفات الأوكرانية التي تستهدف أمن الطاقة من جهة، وتدعم المنظمات الإرهابية من جهة أخرى، وربما تكون هذه التصرفات سبباً بمساعي غربية لرفع الدعم عن أوكرانيا، كما كانت تصرفات نتنياهو في غزة سبباً في انقلاب الغرب ضده. في المحصلة، فإن الأبواب لم تغلق تماماً. فروسيا تبدي انفتاحاً مشروطاً، وواشنطن تلوّح بخيارات بديلة، فيما تبقى كييف متمسكة بالضغط الدولي. ولكن، ما لم تُحسم الشروط الجوهرية، فإن أي لقاء مباشر سيظل مؤجلاً إلى إشعار آخر، وستبقى الحرب عالقة بين تعقيدات السياسة الدولية وضبابية المستقبل.