أوكرانيا -اليمن: حرب عالميّة على خط الطول 38

لم يكن ينقص الصهيو-أميركية هزيمة "طوفان الأقصى" ليُجنَّ جنونها، فشنّت مجزرة غزة التي وقف العالم ضدّها، ومع ذلك لم ترتدع، وتستمر في صراعها وتهديدها ضاربة بعرض الحائط مواقف شعوب العالم.

  • حرب عالميّة على خط الطول 38.
    حرب عالميّة على خط الطول 38.

في الفضاء المحيط بخط الطول 38 الذي يربط افتراضياً القطب الشمالي للكرة الأرضية، بالقطب الجنوبي، يتشكل خط تماس من الصراع العسكري القاسي، والطويل، وترتسم عليه خارطة العالم الجديد.

هذا الخط الافتراضي تقع عليه أهم المعارك التي لا تقل أهمية، وخطورة، وتأثيراً عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهي معارك: أوكرانيا، وجنوبي لبنان، وفلسطين، بلوغاً اليمن، وتجاورها معارك سوريا والعراق المستمرة.

لم يبدأ هذا الصراع بانفجار حرب أوكرانيا، بل هو امتداد للحروب التي يتعرض لها العالم منذ اتّخذ الغرب مساره الاستعماري منذ قرون، لكنّه بلغ وحشية قصوى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وذروة الوحشية في إبادة مدينتي هيروشيما وناغازاكي 1945، وبنتيجتها كان على العالم أن يهدأ، ويستكين، ويلتقط أنفاسه متفكّراً بالمخاطر التي تتهدّد البشرية، فوضع بعض القواعد التي تضبط الصراع، وتعيد الحياة إلى طبيعتها نوعاً ما، رغم تلوّث الذاكرة الإنسانية بوحشية لا تُنسى.

بيد أن قوى الشرّ العالمية المتمثلة بالصهيو-أميركية، لم تكن تستطيع أن تترك البشرية تستريح من نزعاتها العدوانية التي تتكوّن منها بنيتها العقائدية، والثقافية، ونزوعها الدائم للأطماع، والربح الذي يفترض السيطرة، والعدوان بصورة دائمة.

ورغم الهزائم التي لحقت بها في العديد من الحروب، خصوصاً في الصين، وفيتنام، وسواها، إضافة إلى خسائر الحربين الكبيرتين، والأثمان الباهظة التي دُفِعَتْ في هذه الحروب، وملايين الخسائر البشرية، فإن الصهيو-أميركية استمرت في عدوانها، فكانت الحروب خيارها في مختلف الفترات، وربما كانت حسابات فقدان ملايين الناس ضمن الفواتير التي جنتها نحو هاجسها "المليار الذهبي".

لكنّ الصراع الحالي الذي يتموضع على خط الطول 38، اندلع مع حرب أوكرانيا التي نحت الصهيو-أميركية نحوها، عاكفة عن اتجاهها السابق الذي خطّطت له للتوجّه نحو الصين لكبح نهوضها التكنولوجي والاقتصادي، ووضع حدٍّ لتهديد الصين، اقتصادياً وتكنولوجياً، للنظام الإمبريالي لأول مرة بصورة فعلية في تاريخه.

سعت الصهيو-أميركية إلى تشكيل تحالفات دول مختلفة، وكان من أبرزها دول "الأبيك" (آسيا والمحيط الهادئ)، التي هدفت إلى الحفاظ على استمرارية هيمنتها، وانتقال المجابهة إلى الشرق الأقصى بهدف عرقلة نهوض الصين، وإبطاء نموّها وتصاعدها، ولم تكن روسيا في الحسبان بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. 

وبهدف تقدّمها نحو الشرق الأقصى، كان على الصهيو-أميركية أن تفتح الطريق من الشرق الأوسط، فخطّطت لتدمير العراق، وسوريا، ولبنان، على أن تنتقل إلى إيران، فأفغانستان، ولتسهيل تلك الغاية، كانت انتفاضات ما عُرِف بـ"الربيع العربي"، نموذجاً متكرِّراً لربيعات أوروبا الشرقيّة، وقبلها ربيع براغ 1968. 

وفي خضمّ صراعها لبلوغ الشرق الأقصى، وفي حروب مجابهتها في الشرق الأوسط، وشمالي أفريقيا، تعرقلت الخطة الصهيو-أميركية، واضطرت إلى اتخاذ منحىً آخر، خصوصاً عندما بلغ الصراع ذروته في سوريا، واضطرت روسيا النائمة إلى الاستيقاظ قبل بلوغ حدّ السيف رقبتها.

تطوّرات قد تستغرق الوقت الطويل لفهم دينامياتها، بيد أنها أفضت إلى عودة روسيا إلى الساحة الدولية، بفهم جديد للمواجهة بعد فشل رهاناتها على صداقة الغرب الذي كانت حتى الفترات القريبة تسميه "الشريك".

أدركت الصين وروسيا ما تخبئه الصهيو-أميركية من مخاطر عليهما، ولو متأخِّراً، فعقدتا اتفاقيات إسناد ومجابهة مشتركة، وتصدّرت روسيا الصراع عندما تركّز استهدافها في انقلاب أوكرانيا 2014، وتطوّرت ظروف المجابهة في أوكرانيا، إلى أن اندلعت الحرب الحالية المستمرة، وتجلّى فيها انقسام العالم بين تحالف غربي لإسقاط روسيا، وتحالف لمجابهة حالة العدوانية قادته روسيا والصين، وحليفتهما إيران، ودول أخرى.

تبلور الصراع في أوكرانيا على أنه صراع عالمي عندما احتشدت عشرات الدول من حلف "الناتو"، وأصدقائه، لدعم النظام الأوكراني، بينما تضافرت العديد من الدول العالمية، خصوصاً الصين وإيران، إلى جانب روسيا في مجابهتها للغرب، وبدأت تتّضح معالم الصراع على أنه صراع عالمي بديل من حرب عالمية ثالثة.

يقع "طوفان الأقصى"، وفيه مزيد من اتضاح انخراط القوى العالمية في هذا الجانب من الصراع، أم الجانب الآخر، وينكشف انخراط الكيان الصهيوني في الحرب الأوكرانية، لكنّ "طوفان الأقصى" شكّل، أيضاً، ضربة قاصمة للمشاريع الكامنة في جعبة الصهيو-أميركية، ومنها خط الهند-الخليج العربي-"تل أبيب"، الذي افترض إزالة غزة لتمرير قناة "غوريون" المتمّمة لمشروع الخط المذكور الهادف إلى قطع الطريق على خط الحرير الصيني.

لم يكن ينقص الصهيو-أميركية هزيمة "طوفان الأقصى" ليُجنَّ جنونها، فشنّت مجزرة غزة التي وقف العالم ضدّها، ومع ذلك لم ترتدع، وتستمر في صراعها وتهديدها ضاربة بعرض الحائط مواقف شعوب العالم، خصوصاً شعوب أوروبا وأميركا، المعارضة لاستمرار حرب غزة، والمجزرة الوحشية فيها.

وكان من البديهي أن تنضمّ قوى تحالف المقاومة إلى جانب غزة، فدخل اليمن في الصراع مُحدِثاً إرباكاً شديداً في البحر الأحمر، أهم ممرّ تجاري في العالم، كذلك قوى المقاومة في سوريا والعراق.

لكنّ دخول "حزب الله" في المعركة في اليوم التالي لـ"طوفان الأقصى"، أحدث أكبر إرباك للعدو "الصهيو-أميركي"، وأفشل توجهه للسيطرة على غزة، وإنهاء المقاومة فيها، وها هو الحزب، و"المقاومة الإسلامية" بصورة عامة، يعرقل مسار الخطط العدوانية، ويدفع الأثمان الكبيرة من الشهداء "على طريق القدس". 

من هنا، لا يمكن النظر إلى الصراع على خط الطول 38 إلّا أنه صراع متكامل، تهدف منه الصهيو-أميركية الحفاظ على بسط سيطرتها على العالم، وتحاول كبح نهوض قوى عالمية مناهضة لها، على الجانب الغربي من الخط 38، بينما على الجانب الشرقي منه، تتضافر قوى المقاومة لإسقاط هيمنته، وفتح المجال العالمي لنهوض قوى جديدة تستطيع لأول مرة تشكيل بديل استراتيجي واقتصادي ومالي وسياسي.

ومن هنا، يمكن القول إن الصراع الدائر على هذا الخط هو صراع مترابط عالمياً، وكل شهيد يسقط فيه هو شهيد الإنسانية، سقط في مجابهة عدوان الشرّ، ولذلك تحركت العديد من دول العالم، وشعوبه، رافضة الوحشيّة الصهيو-أميركية.

وليدرك كل مَنْ في لبنان أن كل شهيد يسقط "على طريق القدس"، هو شهيد الإنسانية جمعاء.