آرون بوشنل وراشيل كوري: أميركيون على طريق فلسطين
آرون وراشيل، هما مصدر إلهام ووعي للشّباب الغربي الّذي وضع "الإنسان" أولويّة، بمنأى عن سياسة حكومته الإجرامية والاستعماريّة.
عند مشاهدة كيف وقف المهندس في سلاح الجو الأميركي آرون بوشنل بإصرار رهيب أمام سفارة كيان الاحتلال في واشنطن قبل أن يشعل النّار في جسده احتجاجاً وغضباً، وهو يحرص على وضع قبعته العسكريّة بالشّكل الصحيح قبل أن يُقدم على خطوته، تعود بنا الذّاكرة إلى ما قبل 21 عاماً، عندما وقفت النّاشطة الأميركيّة راشيل كوري بثقة وحزمٍ أمام مُجنزرة إسرائيليّة لتمنعها من هدم بيت فلسطينيّ في غزّة، وهي تُدرك أنّ عاقبة موقفها الشّجاع سيكلّفها حياتها.
يحمل آرون وراشيل الجنسيّة نفسها، ولكن ما هو أهم أنّهما يحملان القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة نفسها، فوجدَا أنّ تلك القيم لا يُمكن أن تُترجم إلّا بنصرة فلسطين الّتي تُمثّل امتحاناً يوميّاً لضمائر الأحرار على اختلاف الأزمنة والأمكنة أو الاعتبارات الجنسيّة والعرقيّة والدّينيّة.
من الصّعب جدّاً أن يتخطّى المرء مشهد إحراق آرون لنفسه، ليس لِهول المشهد الّذي بات العالم يُشاهد مثله يوميّاً بحق أبناء غزّة فحسب، بل للثّقة والقوّة الّتي ملأت جسد بوشنل أثناء احتراقه وهو يصرخ من أعماقه "الحُرية لفلسطين"، رافضاً السّقوط إلّا بعد توقّف خلايا جسده عن العمل بشكل نهائي. أبى آرون ابن الـ 25 عاماً "أن يكون متواطئاً في الإبادة بحقّ شعب فلسطين بعد اليوم" كما قال قبل دقائق من وفاته، وكان بوسعه ببساطة أن يطلب تسريحه من الجيش ويعبّر عن احتجاجه بوسائل أُخرى، إلّا أنّه اعتبر نفسه معنيّاً بشكل مُباشر في الإبادة، فقام بما قام به مُرتدياً بزّته العسكريّة الأميركية حُجّةً على نفسه وعلى زملائه في الجيش، وعلى كُلِّ مُشاركٍ أو متواطئ أو ساكتٍ عن الإبادة في غزّة، علّه يُشارك أبناء القطاع المُحاصر آلامهم الّتي لم تهدأ منذ نحو 6 أشهر.
جسدُ آرون المُشتعل سُرعان ما أربك حرس السفارة الذي قام عنصر منهم بإشهار مسدّسه على الجُثمان المُتفحّم علّه يُخمد وهجَ الحدث وتبعاته، لكنّ آرون الفكرة أقوى وأعظم من أن يُطفأ بسهولة على مبدأ "تسقط الأجساد لا الفكرة" الّذي أطلقه أديب فلسطين الشهيد غسان كنفاني، فسقط عندها وهج مسدّس الحارس أمام صرخات الحريّة لفلسطين، وسقط معه وهج كلّ الأسلحة والقنابل الذكية الّتي تُرمى فوق غزّة أمام صراخ أطفالها ونسائها، وتحوّل آرون بوشنل إلى أيقونة للبطولة والرّفض ولرفع الصّوت بجرأة ضدّ ممارسات الغرب الاستعماريّة وإجرام معسكره في الشّرق المعروف بـ "إسرائيل" المُستمرّة بمحرقتها بحقّ الفلسطينيّين.
وعلى الخطى نفسها سارت راشيل كوري قبل آرون بوشنل وتحديداً في عام 2003. فراشيل الّتي كانت مهتمّة منذ نعومة أظافرها بقضايا "الإنسان" في العالم، تعرّفت إلى فلسطين وقضيّة شعبها، وتركت بلادها متّجهة نحو قطاع غزّة خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية ضمن وفد من حركة التضامن العالمية مع فلسطين. وهناك، حاولت كوري منع قوات الاحتلال من هدم منازل الفلسطينيين، وأثناء تصدّيها بجسدها الأعزل لمجنزرة إسرائيلية كانت تنوي هدم بيت فلسطيني، قُتلت راشيل بعد أن دهستها المجنزرة بلا رحمة وهي تبلغ من العمر 23 عاماً.
كانت راشيل تُدرك أنّ ملامحها الأجنبيّة لن تشفع لها، وكانت متأكّدة من أنّ هذا الاحتلال مُجرّدٌ من أيّ قيم إنسانيّة وأخلاقيّة، وأنّ وقوفها أمام المُجنزرة لن يمنعه من استكمال إجرامه ولو كان ثمن ذلك تحطّم عظامها. لكنّ راشيل أدركت الفكرة باكراً، وأيقنت أنّ جسدها لن يكون أثمن من أجساد ملايين الفلسطينيين الّذين استشهدوا على يد آلة القتل الصهيونية الّتي تُعادي "الإنسان" بالدّرجة الأولى، فاستطاعت باستشهادها تحويل جسدها المحطّم إلى أيقونة للتّضامن العالميّ مع فلسطين.
وبما أنّنا وفي ظلّ الحرب الوحشيّة الّتي تُمارسها الإدارة الأميركية وربيبتها "إسرائيل" على الشّعب الفلسطيني في غزّة نردّد دائماً عبارة أنّ "شهداءنا ليسوا أرقاماً"، وجب التّأكيد أنّ آرون وراشيل لن يكونا مجرّد رقمَين، بل هما أيقونتان أميركيّتان على طريق فلسطين، وهما اللّذان أدركَا سبيل نُصرة فلسطين من وراء البحار، وانتمَيا إليها بروحيهما وجسديهما ودفعا حياتهما على طريق تحريرها، على عكس كثرٍ ممّن يتغنّون باسمها وبانتمائهم إلى قضيّتها، ويتغنّون بالمقابل بسلامٍ زائف خطّته أقلام التّطبيع الانهزاميّة.
والأهم من كلّ هذا أنّ آرون وراشيل، هما مصدر إلهام ووعي للشّباب الغربي الّذي وضع "الإنسان" أولويّة، بمنأى عن سياسة حكومته الإجرامية والاستعماريّة.