PKK ومثلت الأزمات بين بغداد وأنقرة وأربيل
وعلى مدى أعوام طويلة، يواجه العراق إشكالية أو عقدة الصراع العسكري المسلح على أراضيه بين تركيا وحزب العمال، وبحكم الكثير من التراكمات السلبية والظروف الاستثنائية والسياسات الخاطئة، تفاقمت المشكلات والأزمات وازدادت الأمور سوءاً.
خلال الأشهر القليلة الماضية، لم يتوقف قصف سلاح الطيران التركي لعدد من المدن والقصبات العراقية الحدودية ضمن إقليم كردستان بشمال العراق، وقد خلّف ذلك القصف المتواصل خسائر بشرية ومادية غير قليلة، وأربك الأوضاع الحياتية لأعداد لا يستهان بها من المواطنين العراقيين الكرد، حتى إنه أرغم البعض منهم على الهجرة والنزوح إلى أماكن أخرى أكثر أماناً وهدوءاً وبعداً عن مرمى نيران الجيش التركي.
وكالمعتاد، تبرر تركيا عملياتها العسكرية في الأراضي العراقية بملاحقة خلايا حزب العمال الكردستاني التركي المعارض(PKK ) وتشكيلاته التي تتمركز في مناطق مختلفة من إقليم كردستان العراق وحتى خارج حدود الإقليم.
وقد تزامنت عمليات القصف التركي مع إجراءات أخرى، من قبيل تعليق رحلات الخطوط الجوية التركية من مطار السليمانية الدولي وإليه، بحجة استخدامه في تحركات بعض من قيادات حزب العمال وحركات أخرى قريبة منه، مثل قوات سوريا الديمقراطية(قسد)، في إشارة إلى الزيارة التي قام بها قائد "قسد" مظلوم عبدي إلى السليمانية بتنسيق مع رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بافل الطالباني مطلع شهر نيسان/أبريل الماضي، حيث تعرض عبدي في حينه لمحاولة اغتيال قرب المطار.
وعلى مدى أعوام طويلة، يواجه العراق إشكالية أو عقدة الصراع العسكري المسلح على أراضيه بين تركيا وحزب العمال، وبحكم الكثير من التراكمات السلبية والظروف الاستثنائية والسياسات الخاطئة، تفاقمت المشكلات والأزمات وازدادت الأمور سوءاً. وفيما كانت ساحة الصراع والمواجهة محصورة في جبال قنديل عند المثلت الحدودي العراقي-التركي-الإيراني ومناطق حدودية أخرى، فإنه في الأعوام الأخيرة توسّع وتمدّد الوجود العسكري والاستخباري التركي ليصل إلى تخوم محافظتَي نينوى وكركوك، وربما إلى أعماقهما، ليتوسّع ويتمدّد معه وجود حزب العمال.
وإذا كانت هناك أسباب وعوامل مختلفة وراء استمرار التوتر والاضطراب السياسي والأمني في إقليم كردستان، فإن السبب الرئيسي يتمثل بالصراع بين تركيا وحزب الـ(PKK)، ففي الوقت الذي يرتبط الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني بعلاقات إيجابية جيدة مع أنقرة، في مقابل علاقاته المتأزمة مع حزب العمال، وهو واقع حكمته ظروف جغرافية بالدرجة الأساس، فإن تلك الظروف نفسها جعلت الاتحاد الوطني الكردستاني قريباً من حزب العمال وبعيداً عن الحكومة التركية، فضلاً عن قربه من إيران.
وفي ضوء هذه المعادلات، توزعت مساحات النفوذ لكل من أنقرة وحزب العمال في مناطق إقليم كردستان، فعلى سبيل المثال، استغل الـ(PKK)، اجتياح تنظيم "داعش" الإرهابي لمدينة الموصل ومدن عراقية أخرى في صيف عام 2014، ليؤسس له وجوداً دائماً في مدينة سنجار غرب الموصل، في الوقت الذي كانت تركيا قد أنشأت قاعدة عسكرية كبيرة وثابتة لها في ناحية بعشيقة شمال الموصل ضمت أكثر من خمسة آلاف عنصر عسكري وأمني، وكميات كبيرة من الأسلحة المتطورة، عرفت بمعسكر "زليكان"، ناهيك بأكثر من عشر قواعد عسكرية أخرى في مناطق متفرقة.
وإذا كانت الحكومة الاتحادية في بغداد تلقي باللوم دائماً على القوى الكردية العراقية لتنامي الوجود والصراع بين الطرفين التركيين، الحكومي والمعارض، فإن القوى الكردية، وتحديداً حكومة الإقليم، ترى أن الحكومة في بغداد، سواء في عهد نظام حزب البعث السابق، أو الحكومات التي جاءت بعد سقوط نظام صدام في ربيع عام 2003، هي التي سمحت أو تغاضت أو تهاونت في التعاطي الجاد مع الانتهاكات والتجاوزات الفاضحة للسيادة الوطنية. وهكذا بالنسبة إلى الحكومة التركية التي تدّعي أن المحافظة على أمنها القومي يحتّم عليها ملاحقة العناصر والتشكيلات المخربة وراء حدودها الجغرافية.
ومما لا شك فيه أن حزب العمال الكردستاني التركي المعارض، ساهم بشكل أو بآخر في تعميق الخلافات والتقاطعات بين الحزب الديمقراطي وغريمه الاتحاد الوطني، وقلّص فرص التفاهم والتوافق فيما بينهما، وأكثر من ذلك، جعل الأمور تتجه شيئاً فشيئاً إلى تشكّل إدارتين للإقليم، إحداهما في أربيل والثانية في السليمانية، لتشمل الخلافات والتقاطعات قضايا وملفات عديدة، من بينها الموقف من الموازنة المالية الاتحادية، والانتخابات البرلمانية في الإقليم التي لم يتحدد موعدها النهائي حتى الآن، وقبل ذلك الخلافات حول منصب رئيس الجمهورية.
ولعلّ إسقاطات وجود حزب العمال وتداعياته، اتسعت بمرور الوقت مع اتساع دائرة وجوده الميداني، لتخلق أوضاعاً مضطربة ومرتبكة وقلقة أمنياً واجتماعياً في مناطق تتميز بتنوّعها القومي والديني والحزبي والسياسي، كقضاء سنجار مثلاً، والذي كانت الحكومة الاتحادية قد أبرمت اتفاقاً مع حكومة إقليم كردستان برعاية الأمم المتحدة في التاسع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2020 لتطبيع الأوضاع فيه من خلال إخراج الجماعات المسلحة منه-المقصود هنا حزب العمال بالتحديد-تمهيداً لعودة النازحين إليه، بيد أن ذلك الاتفاق ولد ميتاً، ولم ير النور بسبب استحالة التوصل إلى صيغة عملية لإنهاء الوجود العسكري المسلح في القضاء المذكور.
ولا يختلف اثنان على حقيقة أن الخيار العسكري لأنقرة فشل فشلاً ذريعاً في القضاء على حزب العمال، أو حتى تحييده، مثلما فشل خيار اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان ووضعه في سجن منفرد بجزيرة امرالي منذ عام 1999 حتى الآن. وكذلك فإن التجربة أثبتت أن حزب العمال مهما بلغت قوته ومهما كان حجم الدعم الذي من الممكن أن يتلقاه من أطراف إقليمية ودولية، فإنه لن يتمكّن من إطاحة النظام السياسي الحاكم في تركيا، وفي أفضل الأحوال لن تتجاوز مديات وجوده وتأثيره مساحات هامشية في جنوب شرق تركيا.
بيد أن العراق في الإطار العام الشامل-وإقليم كردستان تحديداً-يعدّ الطرف الأكثر تضرراً، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، من استمرار ذلك الصراع العبثي غير المجدي.
ولا شك في أن الزيارة المرتقبة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى العراق ستتضمن جدول أعمال حافلاً بجملة موضوعات وقضايا محورية مهمة، من قبيل تعزيز التعاون الاقتصادي، علماً أن حجم التبادلات التجارية ربما تعدى 15مليار دولار العام الماضي، وأزمة المياه وآلية معالجتها، وخصوصاً بالنسبة إلى العراق المتضرر كثيراً، ومشروع طريق التنمية الاستراتيجي ومدى وحدود مشاركة تركيا فيه، وملف تصدير النفط العراقي عبر الأراضي التركية وسبل معالجة النقاط العالقة فيه. وزيارة إردوغان إلى بغداد تأتي بعد أشهر قليلة من فوزه في الانتخابات الرئاسية وتشكيله حكومة جديدة بدت مختلفة كثيراً عن سابقتها، لا سيما أن ملف الدبلوماسية والسياسية الخارجية التركية أصبح في يد هاكان فيدان، رجل المخابرات القوي وكاتم أسرار الرئيس، والقريب من أوساط وشخصيات سياسية عراقية عديدة.
وفي كل هذه القضايا والملفات، فإن ملف حزب العمال سيكون حاضراً بقوة، مثلما كان حاضراً في كل الأوقات سابقاً، مع أهمية التفكير في الحلول والمعالجات السياسية وعدم الاستغراق في الخيارات العسكرية، وضرورة إشراك كل الأطراف المعنية في بلورة الحلول، خصوصاً القوى الكردية العراقية الرئيسية، التي كان لمواقفها المتباينة حيال حزب العمال والعلاقات مع تركيا، أثر كبير في اتساع هوة الخلافات والتقاطعات فيما بينها، وفي توسع مساحات الوجود والصدام بين أنقرة والـ(PKK) في العراق، وبالتالي في بقاء مجمل الملفات مفتوحة، والقضايا معلقة، والخلافات قائمة.