واشنطن: الطريق لهزيمة بكين يمرّ عبر موسكو
ربما ليس مفاجئاً للولايات المتحدة مدى تلاقي مصالح بكين وموسكو، كما أوضح البيان المشترك المطوّل الذي أصدره الرئيسان بوتين وشي في أوائل شباط/فبراير 2022.
تعتقد الإدارة الأميركية أنَّ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا جزء لا يتجزأ من تهديد الصين للهيمنة الأميركية. ومنذ أن دخلت القوات الروسية منطقة دونباس، بدأ السياسيون الأميركيون يناقشون: أيّ من منافسي الولايات المتحدة ينبغي إعطاء الأولوية لاحتوائه؟ الصين أو روسيا؟
الفريق الأول جادل بأنّ سرعة العملية العسكرية الروسية وقوتها هما مؤشران يحتّمان على الولايات المتحدة أن تتعامل مع روسيا كمنافس من الدرجة الأولى. الفريق الآخر جادل بأن الصين، مهما كان سلوك روسيا، لا تزال تمثل التحدي الأكثر شمولاً للقوة الأميركية. وقد تبنى عدد من الاستراتيجيين الجمهوريين البارزين هذا الموقف، وكذلك فعلت استراتيجية الدفاع الوطني الجديدة لوزارة الدفاع الأميركية، والتي تنص على أن الحرب في أوروبا الشرقية يجب ألا تصرف انتباه الولايات المتحدة عن التعامل مع الخطر الصيني السريع النمو في غرب المحيط الهادئ.
وهناك فريق ثالث يرى أن أياً من هذه الحجج ليس صحيحاً تماماً، لأن التفريق بين روسيا والصين هو حجة خاطئة؛ فالصين هي أشد أعداء الولايات المتحدة. ولذلك، عليها أن تلحق بها هزيمة استراتيجية شديدة، من خلال ضمان خسارة روسيا في أوكرانيا.
تتمتع الصّين بالقوة الاقتصادية والتطوّر التكنولوجي والقدرات العسكرية المتزايدة بسرعة لتولي القيادة في جميع أنحاء آسيا وخارجها، وهي تسعى في الوقت نفسه لإعادة كتابة القواعد العالمية وتغيير قواعد المؤسسات الدولية. وقد صرحت استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن بأن الصين "قادرة على الجمع بين قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتشكيل تحدٍّ مستدام لنظام دولي مستقر ومنفتح".
لذلك، ترى الإدارة الأميركية أنّ روسيا قوة من الدرجة الثانية، ولديها أمل ضئيل بتنشيط الاقتصاد الَّذي كان يعاني من الركود حتى قبل العملية العسكرية الحالية، وهي تعمل الآن في ظلّ أحد أقسى الإجراءات الاقتصادية المفروضة على قوة عظمى منذ الحرب العالمية الثانية.
الأميركيون لا يقلقهم أيّ عالم يتمحور حول روسيا، حتى لو كانت قادرة على تغيير قواعد النظام الدولي الحالي، إلا إذا كان ذلك بالاعتماد على الصين، فروسيا مع الصين قوية، ولا تستطيع رسم ملامح نظام عالمي جديد من دونها. ولذلك، تعتقد الإدارة الأميركية أن ما يحدث في أوكرانيا يجب ألا يمنع واشنطن من التركيز بشكل مباشر على بكين، ففي الوقت الذي تسعى لإحباط العملية الروسية في أوكرانيا، عليها أيضاً أن تركز باستمرار على موقفها ضد الصين في آسيا.
كما أنّ تمكّن موسكو من امتلاك القدرة على تنسيق الحرب السيبرانية الإلكترونية وحرب المعلومات، يساعد بكين على جعل الإنترنت العالمي متاحاً بشكل مفتوح للدول غير الصديقة للولايات المتحدة، والتدريبات العسكرية المشتركة، ومشاريع الدفاع التكنولوجي، وجوانب أخرى من التعاون الصيني الروسي، تغذي التحدي الصيني لهيمنة الولايات المتحدة.
ربما ليس مفاجئاً للولايات المتحدة مدى تلاقي مصالح بكين وموسكو، كما أوضح البيان المشترك المطوّل الذي أصدره الرئيسان بوتين وشي في أوائل شباط/فبراير 2022، فكلاهما قلق بشدة من التحالفات الأميركية، ويسعى إلى الحد من الهيمنة الأميركية، ويرغب في رؤية نفوذ الولايات المتحدة مقيداً، بما يجعل العالم أكثر أمناً، لكن ماذا لو نشبت حرب كبرى؟
سيكون اعتماد الصين على روسيا أكبر في حال نشوب حرب، إذ ستشكل روسيا بقيادة بوتين ظهيراً قوياً للصين، ما يتيح للأخيرة تركيز قواتها ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وقد تقدم روسيا إمداداً عسكرياً لها أو تساعدها على التغلب على الآثار الضارة للحصار البحري الأميركي.
كما أنَّ الصين، مع وجود روسيا كشريك، لن تخشى وجود فائض قوة أميركي، وستكون إمداداتها الغذائية أكثر أماناً، وكذلك إمداداتها من المواد الخام الأخرى، ويمكن لروسيا أن تجد طرقاً لتخفيف الضغط العسكري على الصين، ربما من خلال وضع قواتها الخاصة على حدود أوروبا الشرقية.
لهذه الأسباب، ليس لدى الصّين أي مصلحة جوهرية أكثر من الحفاظ على روسيا صديقة، وخصوصاً مع تعمّق التوترات مع دول المحيطين الهندي والهادئ المتحالفة مع الولايات المتحدة. ولذلك، لا يمكن أن تشارك بكين أبداً مع واشنطن في إجبار روسيا على التراجع في أوكرانيا، وهي تعرف المثل المشهور: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، وهو ما عبّرت عنه إحدى الإعلاميات (ليو شين) عندما كتبت: "إن الولايات المتحدة تطلب من الصين مساعدتها في محاربة صديقها، حتى تتمكن من التركيز على قتلها لاحقاً".
لقد أثارت جرأة العملية العسكرية الروسية تهديدات غربية بخلق مشاكل للصين. ومن هذه التهديدات التلميح إلى أنَّ رأس المال الأجنبي ربما يغادرها، وأنَّ الشركات والمستثمرين ربما يعيدون النظر في المخاطر التي قد يواجهونها إذا حاولت الصين تنفيذ شيء مشابه في تايوان.
أستراليا كذلك زادت الإنفاق الدفاعي بالتنسيق مع بريطانيا والولايات المتحدة (أوكوس)، واليابان طالبت بإجراءات أقوى لتحقيق التوازن مع بكين، وكوريا الجنوبية انتخبت رئيساً أكثر تشدداً، وميزانية الدفاع الأميركية آخذة في النمو، في ضوء تحذيرات البنتاغون من أن الحرب مع الصين قد لا تكون بعيدة.
في النتائج، إنّ فوز روسيا في أوكرانيا يمكن أن يسرّع الاحتواء الغربي للصين، لكن خسارتها ستجعل موقف الصين أكثر عرضة للخطر. ربما تخطّط الولايات المتحدة لاستمرار العزلة الاقتصادية والاستنزاف العسكري لروسيا، ما يجعلها ضعيفة وأقل فائدة كحليف للصين.
كما أنّ تخلّف روسيا عن سداد ديونها، وحجبها عن الوصول إلى التكنولوجيا الأجنبية المتقدمة، سيجعلها أكثر اعتماداً على بكين من كونها شريكاً، وهذا ما استدركته روسيا جيداً، من خلال بيع الغاز والنفط والروبل وسداد ديونها بعملتها المحلية. ومن المؤكد أن الصين تدرك جيداً أنّ أيّ تهديد بعدم الاستقرار السياسي في موسكو يجب أن يكون ثمنه باهظاً.
إن علاقة روسيا والصين تقوم على دوافع أيديولوجية وجيوسياسية قوية، والصين تدرك أن هزيمة موسكو العسكرية ستؤدي إلى مزيد من الاضطرابات الشاملة وصعود حكومة أقل صداقة بكثير.
مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن نشر دراسة لجود بلانشيت قال فيها: "كلما كان الأمر أسوأ بالنسبة إلى روسيا في أوكرانيا، زادت الصين دعمها لروسيا". تكشف هذه الديناميكية كيف يمكن للولايات المتحدة توجيه ضربة استراتيجية حادة إلى الصين من خلال ممارسة ضغط أكبر على روسيا.
هذه الاستراتيجية لا تتطلّب من واشنطن وحلفائها الدخول في القتال، بل الاستمرار فقط بما تفعله، أي إعطاء النازيين في أوكرانيا إمداداً لا ينتهي من الأسلحة والمال والاستخبارات والتدريب، حتى يتمكنوا من إحباط روسيا.
بالطبع، سيزداد حجم الدعم المطلوب مع انتقال النازيين من الدفاع اليائس إلى الهجمات المضادة. وإذا نجحت هذه الاستراتيجية، فستترك روسيا أضعف، كما أنها ستضع الصين في موقف لا تربح فيه أي شيء، كما ترى الإدارة الأميركية.
التقدير الاستراتيجي الأميركي يتمحور حول احتمالين: يمكن أن تقف الصين على الحياد وتراقب انتهاء العملية العسكرية مع كل النتائج المتمخضة عنها، أو أن تدعم روسيا بشكل أكثر صراحة واندفاعاً، وبالتالي تعرض شركاتها للعقوبات الأميركية، ما يؤدي إلى إثارة المشاعر المعادية للصين في الولايات المتحدة وأوروبا، يتبعها ظهور تحالف أقوى وأكثر توازناً عالمياً.
ثمة مخاطر بالتأكيد إذا تبنّت الولايات المتحدة هذه الاستراتيجيّة، فقد تصبح روسيا أكثر ميلاً إلى التصعيد في أوكرانيا أو حولها، وبالتالي، سيكون الدعم المعزز للنازيين مصحوباً بمزيد من التعزيز للجبهة الشرقية لحلف الناتو، وبتهديدات مفادها أنّ أيّ تصعيد روسي قد يدفع واشنطن وحلف شمال الأطلسي إلى التفكير في التدخل مباشرة في أوكرانيا.
ويجب أن تتضمن هذه الاستراتيجية أيضاً تقوية سريعة للقدرات العسكرية للعالم الغربي، وهي عملية جارية بالفعل في بلدان مثل ألمانيا والسويد، لتعزيز قدرتها الجماعية على مراقبة الصين وروسيا في وقت واحد.
أخيراً، تتطلّب هذه الاستراتيجية تحولاً فكرياً أكبر لدى السّاسة الأميركيين، فلم يعد من المناسب النظر إلى الصين وروسيا باعتبارهما تحديين استراتيجيين متمايزين، فالبلدان هما جزء من محور مُندمج في قلب أوراسيا، وهو محور يتحدى هيمنة الولايات المتحدة في أطراف أوروبا والمحيط الهادئ، والصين هي الشريك الأقوى في هذا المسعى.