هل الكويت تفصل الاقتصاد عن السياسة الخارجية؟
الجمود السياسي، الذي يسيطر على طريقة إدارة الملف الخارجي للكويت، لا يتوازى مع الملف الاقتصادي النشط.
ثمة تساؤل يتكرر بشأن موضع الكويت الجيوسياسي، ولماذا لا تطور الدولة الخليجية الغنية سياستها الخارجية، بحيث تنافس عبرها اللاعبين الأساسيين من شقيقاتها، كالسعودية والإمارات وقطر وعُمان.
وعلى الرغم من أن الأخيرة محدودة الموارد، فإن مسقط تؤدي دوراً مهماً في سياستها الخارجية على المسرحين الإقليمي والعالمي، والكويت، وإن لم تكن في مستوى السعودية والإمارات وقطر على صعيد الناتج المحلي، إلا أن لها الأفضلية على عُمان، ومع ذلك لا نجد لها صدىً عالمياً أو حتى إقليمياً في رسم الخرائط السياسية، أو على أقل تقدير في التأثير في السياسات الخارجية.
وقبل الولوج في معالجة سؤال: لماذا لا تؤدي الكويت دوراً سياسياً على مستوى الإقليم أو العالم كشقيقاتها، لا بد من الإشارة إلى أن الصندوق السيادي لها وأذرعه نشط جداً في العالم، ولديه استثمارات هائلة في أوروبا وأميركا ودول آسيوية متعددة، وتستثمر الكويت في عدة مجالات، وفي أهم مصادر التكنولوجيا والطاقة والعقارات.
أمّا لماذا لا تستثمر الكويت رافعتها الاقتصادية المريحة نسبياً في السياسة، فذلك يعود إلى عدد من الأسباب المركبة والمعقدة، أبرزها أن النخب الكويتية والمؤثرين في صناعة سياساتها محبوسون في عقدة المثلث المحيط بدولتهم، والمقصود به: السعودية وإيران والعراق.
ويعتقد عدد وازن من نخبة الكويت أن هذا الثالوث يحتاج إلى عملية توازن من جانب الكويت، كونها أصغر من تلك الدول الثلاث في كل شيء. فالدول الثلاث المذكورة تتفوق على الكويت في الاقتصاد والديمغرافيا والعسكر. والأهم من تلك العوامل، فإن الكويت تتوسط هذه الدول جغرافياً، وهذا ما يزيد في تركيب العقدة وتعقيد التصور المحلي المسكون بأن على الدولة، في كل طاقتها، ألا تتورط في صراع مع إحدى هذه الدول.
في التفاصيل، فإن الكويت تعاني مشكلة حدودية مع العراق، الذي لم يكن جاراً مريحاً في زمن الحكم السابق، وتحتفظ، رسمياً وشعبياً، بذاكرة غنية بالحزن والأسى مع بغداد. كما أنها لا تستطيع أن تذهب بعيداً في علاقتها بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، كون أن الأخيرة تمثل "بُعبعاً" يجب التعامل معه بحذر وحذاقة وكثير من البراغماتية. ومن صُناع صورة هذا البعبع نخبةُ الإخوان المسلمين الكويتيين، والمؤثرين في بيت الحكم وفي قطاع التجارة.
ولا تستطيع الكويت أن تخالف السعودية بصورة صريحة، مع أنها لا تماشيها في بعض سياساتها، وهذا أيضاً يُحسب بقبّان دقيق، لكنها، في إطارها العام، تماشي الرياض في توجهاتها الخارجية.
إلى جانب هذه العقدة المركبة، لدى الكويت مشكلة ديمغرافية متعلقة بفئة البدون، وفصلتُ مشكلة هذه الفئة في مقالات سابقة. لكن إجمالاً، فإن البدون يعانون عدم حصولهم على حقوق المواطنة، ويستغل هذا الملف عدد من التجار لأسباب متعددة. وتُعَدّ هذه الفئة لبيت الحكم الكويتي كالموسى في الحلقوم، لا يمكن بلعها ولا يمكن لفظها. فمعالجة ملف البدون صعبة وتواجه عدداً من العقبات، التي يمتهن حيتان التجارة خلقها. وعدم معالجة هذا الملف يمثل ألماً لرأس الدولة ومفاصلها، كون أن البدون يوجدون في كل جزء من نسيجها، سواء على مستوى الأعمال أو على مستوى الترابط الاجتماعي، وما له من أثر بالغ في توازن المجتمع.
بالإضافة إلى كل تلك العوامل، ثمة نزعة لدى آل صباح إلى تقليل المشاكل الخارجية، ويتصورون أن النزوع إلى ذلك يأتي من عدم إيجاد سياسة خارجية مؤثرة في الإقليم أو العالم.
صحيح أن مجلس الأمة شرّع قانوناً يقضي بتجريم التطبيع، وهذا يمثل نوعاً من المضي خلاف ما يجري وراءه الخليجيون، لكن لم تكن تلك المخالفة خارجة من كُم الحكومة، أو بيت الحكم، بل من مجلس الأمة. وهذا، إن كان له وجه إيجابي على صعيد الدور الديمقراطي النسبي الذي يقوم به مجلس الأمة، ألا أن له وجهاً آخر، هو نفض اليد الرسمية من أي قرارات صعبة تقوم بها الدولة، وإنما نذكر هذا الوجه السلبي للحذر من الجزم الصارم بأن دولة الكويت ستكون حازمة في هذا الملف، بحيث يخشى أن يكون قرار مجلس الأمة مجرد تأجيل لتوجه عارم يجتاح الخليجيين.
عوداً إلى موضوع بناء السياسة الخارجية للكويت والعقبات التي تصطدم بها، ثمة اعتقاد في الأوساط الإعلامية الكويتية، على الأقل، مفاده أن الدولة الخليجية الصغيرة لن تغامر على المدى المتوسط بأي جرأة يفضي إلى توسع نفوذها خارجياً، وهذا مدعَّم بقناعة محلية تقول إن حل المشاكل الداخلية أَولى من كل تلك التطلعات الخطرة وغير المضمونة.
والسؤال المعاضد لكل هذا المشهد، هو: ماذا ستستفيد الكويت لو غامرت في بناء سياسة خارجية تفضي إلى توسع نفوذها في الإقليم أو في العالم؟ ألن يُعَدّ ذلك مقامرة غير محسوبة في ظروف عالمية صعبة على كل الصعد؟
هذا السؤال وجيه جداً ومنطقي كونه يأتي في فترة برزخية ما بين النفوذ الأميركي والنفوذ الغربي وبين تعدد الأقطاب. وهذا المخاض العسير بين القوى الكبرى تصاحبه مخاطر جمة، كما نرى، في أوكرانيا والشرق الأوسط والحرب الاقتصادية بين واشنطن وبكين وأزمات أوروبا وغيرها.
ولعل دراسة هذا السؤال ترسم بعض ملامح التحدي المفروض على العالم، بمعنى: ماذا لو اكتشف الكويتيون أن ضرورة السعي لبناء سياسة خارجية هو أفضل وسيلة للدفاع عن أمنهم القومي من جهة، وأسرع وسيلة لنثر أوراق ضغطهم في الملفات العالقة خارجياً، كحقول النفط المشتركة والحدود البحرية وعقدة المثلث الجغرافي وغير ذلك، بل ربما يكتشف أصحاب القرار أن التوسع خارجياً يحلّ بعض المشاكل الداخلية أو يُديرها، عبر زوايا مغايرة، وهذا ما يفعله كبار اللاعبين العالميين والإقليميين.
الجمود السياسي، الذي يسيطر على طريقة إدارة الملف الخارجي للكويت، لا يتوازى مع الملف الاقتصادي النشط، وهذا قد يراه البعض منقبة وليست مثلبة، كون الحضور الاقتصادي عالمياً يدرّ على الدولة مزيداً من التنويع في مصادر الدخل، بينما لا تأتي بذلك أي تحديات أمنية، كون أن الكويت لا تقوم بأي مشاغبة سياسية، وسيكون هذا التصور صحيحاً فيما لو صح القول إن السياسة لا علاقة لها بالاقتصاد، أو الاقتصاد لا علاقة له بالسياسة، على مستوى الدمينو المعمول به عالمياً.
في اعتقادي، أن الكويت تحجم نفسها بهذه الطريقة ولا تقوم بأي عمل يساوي ملاءتها المالية الجيدة، بل تُبقي على بعض الملفات الداخلية، التي تُعَدّ كالأبر في خاصرة الدولة من دون طائل، بينما لو لم تكن تلك الأبر موجودة لاستطاعت الدولة الانطلاق إلى آفاق أرحب.
يمكن للكويت أيضاً أن تدير زوايا المثلث/العقدة وتحول هذا الملف إلى مروحة منعشة لها في كل المستويات، وأولها المستوى الأمني. فالتحالف الأمني مع الدول الثلاث سيعطيها أفضلية في تطويق المخاطر المحتملة، كما أن التعاون، تجارياً واقتصادي وثقافياً، سيتيح لها أيضاً العبور إلى أفق مغاير عما هو عليه الآن.
ولعل العقدة الأساس، والتي لا يُتحدَّث عنها إلا بنبرة خجولة في الداخل الكويتي، هي التساؤل عمن يدعم المؤثرين في الشارع السياسي، أولئك الذين يقفون دون حلحلة العقبات الداخلية والانطلاق نحو أفق خارجي مغاير. لعل التساؤل عمن يدعمهم هو عين الدواء الذي سيرفع الغمامة عن فصل الاقتصاد عن السياسة، بحيث إن ثمة زعماً يقول إن السياسة الخارجية لبعض الدول تلعب في الكويت برداء الاقتصاد وأثره وتأثيره. وإذا صح هذا الزعم، فلا مجال لدى الكويتيين إلّا قلب المعادلة الخارجية على الداخل بمعادلة داخلية على الخارج.